صفحة جزء
وحدثني بعض إخواني ممن يوثق به ، قال : عاتب الحسن إخوانه في ترك مجالستهم ، فقال الحسن : " مجالسة الله أشهى من مجالستكم ، وذكر الله أشفى من ذكركم ، أما بلغكم ما أوحى الله تعالى إلى إبراهيم - عليه السلام - : " يا إبراهيم ، إنك خليلي فانظر لا أطلع عليك فأجدك شغلت قلبك بغيري ، فإني إنما أختار لخلتي من لو ألقي في النار وهو في ذكري لم يجد لمس النار ألما ، ومن إذا تراءت له الجنة وقد زخرفت وزينت بحورها وما فيها من النعيم لم يرها بعينه ولا شغل بها عن ذكري ، فإذا كان كذلك تواترت عليه ألطافي وقربته مني ووهبت له محبتي ، ومن وهبت له محبتي فقد استمسك بحبلي ، فأي نعمة تعدل ذلك ؟ وأي شرف أشرف منه ؟ فوعزتي لأرينه وجهي ولأشفين صدره من النظر إلي " .

وقال إبراهيم بن أدهم : " لو علم الناس لذة حب الله لقلت مطاعمهم ومشاربهم وحرصهم ، وذلك أن الملائكة أحبوا الله فاستغنوا بذكره عن غيره " .

وسمعت محمد بن الحسين ، يقول : قال عتبة الغلام : من عرف الله أحبه ، ومن أحب الله أطاعه ، ومن أطاع الله أكرمه ، ومن أكرمه أسكنه في جواره ، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه ، والمحب الصادق إذا استنار قلبه بنور حب الوداد نحل جسمه ، لأن قليل المحبة يبين على صاحبها كثير النحول ، فإذا وردت خطرات الشوق عليه علم أنه من الله تعالى على خلال أربع : إما أن يتقبل طاعته فيفوز بثوابها ، وإما أن يشغله في الدنيا بطاعته عن الآثام فتقل خطاياه ، وإما أن يتداركه بنظره فيلحقه بدرجة المحبين تفضلا ، وإن لم يستحق ذلك ، فإن فاتته الثلاث لم يفته الرابع إن شاء الله ، ثواب النصب لله ، وذلك أن قليل القربة عند الكريم يعتق بها الرقاب من النار [ ص: 82 ] فمن نجا من النار فما له منزلة غير الجنة ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) ، فهل ترى لأحد منزلة بينهما ؟ ومن أراد الدخول في عز المحبة فعليه بمفارقة الأحباب والخلوة برب الأرباب ، فإن قيل : فمن أين قلت ذلك ؟ فقد حدثني بعض العلماء ، قال : قال إبراهيم بن أدهم لأخ له في الله : إن كنت تحب أن تكون لله وليا وهو لك محبا فدع الدنيا والآخرة ، ولا ترغبن فيهما ، وفرغ نفسك منهما ، وأقبل بوجهك على الله يقبل الله بوجهه عليك ، ويلطف بك ، فإنه بلغني أن الله تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا - عليهما السلام - : يا يحيى ، إني قضيت على نفسي أن لا يحبني عبد من عبادي أعلم ذلك منه إلا كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي يتكلم به ، وقلبه الذي يفهم به ، فإذا كان ذلك كذلك بغضت إليه الاشتغال بغيري ، وأدمت فكرته ، وأسهرت ليله ، وأظمأت نهاره ، يا يحيى ، أنا جليس قلبه وغاية أمنيته وأمله ، أهب له كل يوم وساعة ، فيتقرب مني وأتقرب منه ، أسمع كلامه وأجيب تضرعه ، فوعزتي وجلالي لأبعثنه مبعثا يغبطه به النبيون والمرسلون ، ثم آمر مناديا ينادي : هذا فلان بن فلان ولي الله وصفيه ، وخيرته من خلقه ، دعاه إلى زيارته ليشفي صدره من النظر إلى وجهه الكريم ، فإذا جاءني رفعت الحجاب فيما بيني وبينه ، فنظر إلي كيف شاء ، وأقول : أبشر ، فوعزتي وجلالي لأشفين صدرك من النظر إلي ، ولأجددن كرامتك في كل يوم وليلة وساعة ، فإذا توجهت الوفود إليه أقبل عليهم ، فقال : أيها المتوجهون إلي ، ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت لكم حظا ، وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم سلما .

قال : وحدثني الحسين بن أحمد الشامي ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول : قرأت في التوراة : أن الأبرار الذين يؤمنون ، والذين في سبيل خالقهم يمشون ، وعلى طاعته يقبضون ، أولئك إلى وجه الجبار ينظرون ، فغاية أمل الآمل المحب الصادق النظر إلى وجه الله الكريم ، فلا ينعمهم في مجلسهم بشيء أكبر عندهم من النظر إلى وجهه ، وبلغني أنه ينعمهم بعد النظر بأصوات الروحانيين ، وبتلاوة داود - عليه السلام - الزبور ، فلو رأيت داود وقد أتي بمنبر رفيع من منابر الجنة ، ثم أذن له أن يرقى ، وأن يسمع حمده وثناءه ، وقد أنصت [ ص: 83 ] له جميع أهل الجنة من الأنبياء والأولياء والروحانيين والمقربين ، ثم ابتدأ داود بتلاوة الزبور على سكون القلب عند حسن حفظه وترجيعه وتسكينه الصوت ، وحسن تقطيعه ، وقد وكل بها زمعها ، وفاح منها طربها ، وقد بدت النواجذ من الضاحكين بحبرة السرور ، وأجاب داود هواء الملكوت ، وفتحت مقاصير القصور ، ثم رفع داود - عليه السلام - من صوته ليتم سرورهم ، فلما أسمعهم الرفيع من صوته برز أهل عليين من غرف الجنة ، وأجابته الحور من وراء سترات الخدور بمفتنات النغم ، وأطت رحال المنبر ، واصطفقت الرياح فزعزعت الأشجار ، فتراسلت الأصوات وتجاوبت النغم ، وزادهم المليك الفهم ليتم ما بهم من النعم ، فلولا أن الله كتب لهم فيها البقاء لماتوا فرحا ، قلت : فهل قالت العلماء في صفة يوم الزيارة شيئا تصفهم به ؟ قال : نعم ، اجتمع جماعة من العباد ، فأتوا عابدا في بيته ، فقالوا له : قل خيرا وأوصنا بوصية ، فقال : اقطعوا الدهر إخوتي بمناجاة ربكم ، واجعلوا الهم هما واحدا ، فهو أهنأ لعيشكم ، قيل له : فما ميراث ذلك إذا نحن فعلناه ؟ فقال :


ترثوا العز والمنى وتفوزوا بحظكم     فلعمري إن الملوك
لفي دون ملككم



قيل له : فمتى نكون ملوكا في الدنيا أو في الآخرة ؟ فقال :


إنما تجعلون ملوكا     في الأخرى بزهدكم
حين يؤنسكم العزيز     على قدر شكركم
فتكونوا في القرب منه     على قدر حبكم



قالوا : فما الذي يقطع بنا عنه - عز وجل - ؟ فقال : لأنكم تتمادون في المنى ، وتناسون فعلكم ، وأنتم مع ذلك تتمنوا أماني ليس تصلح بمثلكم ، وذلك أنكم شغلتم عن الإله بإصلاح عيشكم ، قالوا : فبم نستعين على الطاعة ؟ قال : بذكر حبيب العابدين ، إنكم لو سقيتم من حبه مثل ما ذاق غيركم لنفي عنكم الرقاد على طيب فرشكم ، وارتياحا يقل عند المناجاة صبركم ، ثم أرم ساعة - يعني سكت - ثم أقبل عليهم ، فقال : إخوتي ، لو وردتم في غد عند بعثكم ، فوق نوق من [ ص: 84 ] النجائب معكم نبيكم ، لتزوروا ماجدا واحدا لا يملكم ، قالوا له : فما حال الزوار عنده إذا قصدوه تبارك اسمه معهم نبيهم ؟ قال : إنهم حين قاربوه تجلى لقربهم فإذا عاينوا المليك تقضت همومهم ، سمعوا كلامه وسمع كلامهم ، قالوا : فما علامة من سقاه الله بكأس محبته ؟ فقال : علامته أن يكون عليل الفؤاد بذكر المعاد ، بطيء الفتور في جميع الأمور ، كثير الصيام ، شديد السقام ، عفيفا كفيفا ، قلبه في العرش جوال ، والله مراده في كل الأحوال .

قلت : رحمك الله ما أقرب ما يتقرب به العبد المحب إلى الله ؟ قال : حدثني محمد بن الحسين ، قال : سئل أبو سليمان الداراني عن أقرب ما يتقرب به إليه ، قال : أن يطلع على قلبه وهو لا يريد من الدنيا والآخرة غيره ، ففي هذا دليل على أن أقرب ما يتقرب به العبد إلى الله كل عمل عمله بالإخلاص لله والإشفاق عليه من عدوه ، وإن قل ذلك فهو المقبول إذا كان على حقيقة التقوى معمولا ، كما قال علي بن أبي طالب : عمل صالح دائم مع التقوى وإن قل ، وكيف يقل ما يتقبل ؟ وذلك أن المحب لله هو على الركن الأعظم من الإيمان الذي يمكن أن يستكمله العبد ، ولا يحسن به ادعاؤه وهو ركن المعرفة بالنعم ، وإظهار الشكر للمنعم ، وذلك أن الله تعالى يقول لولي من أوليائه : يا عبدي ، أما زهدك في الدنيا فطلبت به الراحة لنفسك ، وأما انقطاعك إلي فتعززت بي ، فهل عاديت لي عدوا أو واليت لي وليا ؟ فيخبرك أنه جعل الحب والبغض فيه أعظم عنده ثوابا من الزهد في الدنيا ، والانقطاع إليه ، قلت له : صف لي زهد المحبين ، وزهد الخائفين ، وزهد الورعين ، وزهد المتوكلين ، فقال : إن العباد زهدوا في حلال الدنيا خوفا من شدة الحساب إذ سئلوا عن الشكر ، فلم يؤدوا الشكر على قدر النعم ، وفرقة من الخائفين زهدوا في الحرام خوفا من حلول النقمة ، فزهد الخائفين ترك الحرام البين ، وزهد الورعين ترك كل شبهة ، وزهد المتوكلين ترك الاضطراب فيما قد تكفل به من المعاش ؛ لتصديقهم بوفاء الضامن ، وزهد المحبين قد قالت فيه العلماء ثلاثة أقوال ، فقالت فرقة : زهد المحب في الدنيا كلها في حلالها وحرامها ، لقلتها في نفسه ، وقالت [ ص: 85 ] فرقة أخرى : زهد المحب في الجنة دون الدنيا ، حذرا من أن يقول له حبيبه : يا محب ، أي شيء تركت لي ؟ فيقول : تركت لك الدنيا ، فيقول : وما قدر الدنيا ؟ فيقول : يا رب ، قدرها جناح بعوضة ، فيلحقه من الحياء من الله أن يقول له : تركت لك ما قدره جناح بعوضة ، ولكن تعلم يا رب أني لم أعبدك إلا بثواب الجنة فقط ، لا أريد منك غير ذلك ، وما الجنة مع ذكرك ؟ فزهد المحب الصادق في الدنيا هو الزهد في الإخوان الذين يشغلون عن الله ، فقد زهد فيهم لعلمه بما يلحقه من الآفات عند مشاهدتهم ، فزهده فيهم على علم بهم " .

التالي السابق


الخدمات العلمية