صفحة جزء
571 - الجنيد بن محمد الجنيد

ومنهم المربى بفنون العلم المؤيد بعيون الحلم المنور بخالص الإيقان وثابت الإيمان ، العالم بمودع الكتاب والعامل بحلم الخطاب ، الموافق فيه للبيان والصواب ، أبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد ، كان كلامه بالنصوص مربوطا وبيانه بالأدلة مبسوطا ، فاق أشكاله بالبيان الشافي واعتناقه للمنهج الكافي ولزومه للعمل الوافي .

سمعت أبا الحسن علي بن هارون بن محمد ، وأبا بكر محمد بن أحمد المفيد يقولان : سمعنا أبا القاسم الجنيد بن محمد غير مرة يقول : علمنا مضبوط بالكتاب والسنة ، من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به ، وكان في أول أمره يتفقه على مذهب أصحاب الحديث مثل أبي عبيد وأبي ثور ، فأحكم الأصول وصحب الحارث بن أسد المحاسبي وخاله السري بن مغلس ، فسلك مسلكهما في التحقيق بالعلم واستعماله .

سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن مقسم يقول : سمعت أبا محمد الخواص يقول : سمعت الجنيد بن محمد يقول : كان الحارث بن أسد المحاسبي يجيء إلى منزلنا فيقول : اخرج معي نصحر ، فأقول له : تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات ؟ ، فيقول : اخرج معي ولا خوف عليك ، فأخرج معه فكان الطريق فارغا من كل شيء لا نرى شيئا نكرهه ، فإذا حصلت معه في المكان الذي يجلس فيه قال لي : سلني ، فأقول له : ما عندي سؤال أسألك ، فيقول : سلني عما يقع في نفسك ، فتنثال علي السؤالات فأسأله عنها فيجيبني عليها في الوقت ثم يمضي إلى منزله فيعملها كتبا ، فكنت أقول [ ص: 256 ] للحارث كثيرا : عزلتي وأنسي وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات ؟ فيقول لي : كم تقول أنسي وعزلتي ؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا ، ولو أن النصف الآخر نأوا عني ما استوحشت لبعدهم .

قرأت على أبي الحسين محمد بن علي بن حبيش الناقد الصوفي صاحب أبي العباس بن عطاء ببغداد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة من كتابه فأقر به ، قلت : سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد يقول : إن أول ما يحتاج إليه من عقد الحكمة تعريف المصنوع صانعه ، والمحدث كيف كان أحدثه ؟ وكيف كان أوله ؟ وكيف أحدث بعد موته ؟ فيعرف صفة الخالق من المخلوق ، وصفة القديم من المحدث ، فيعرف المربوب ربه ، والمصنوع صانعه ، والعبد الضعيف سيده ، فيعبده ويوحده ويعظمه ويذل لدعوته ويعترف بوجوب طاعته ، فإن من لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه ، ولم يضف الخلق في تدبيره إلى وليه ، والتوحيد علمك وإقرارك بأن الله فرد في أوليته وأزليته ، لا ثاني معه ولا شيء يفعل فعله وأفعاله التي أخلصها لنفسه ، وأن يعلم أن ليس شيء يضر ولا ينفع ، ولا يعطي ولا يمنع ، ولا يسقم ولا يبرئ ، ولا يرفع ولا يضع ، ولا يخلق ولا يرزق ، ولا يميت ولا يحيي ، ولا يسكن ولا يحرك ، غيره جل جلاله . فقد سئل بعض العلماء فقيل له : بين التوحيد وعلمنا ما هو ؟ فقال : هو اليقين ، فقيل له : بين لنا . فقال : هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونها فعل الله وحده لا شريك له ، فإذا فعلت ذلك فقد وحدته ، وتفسير ذلك أنك جعلت الله واحدا في أفعاله إذ كان ليس شيء يفعل أفعاله ، وإنما اليقين اسم للتوحيد إذا تم وخلص ، وإن التوحيد إذا تم تمت المحبة والتوكل وسمي يقينا ، فالتوكل عمل القلب ، والتوحيد قول العبد ، فإذا عرف القلب التوحيد وفعل ما عرف فقد تم .

وقد قال بعض العلماء : إن التوكل نظام التوحيد فإذا فعل ما عرف فقد جاء بالمحبة واليقين والتوكل ، وتم إيمانه وخلص فرضه ؛ لأنك إذا عرفت أن فعل الله لا يفعله شيء غير الله ، ثم تخاف غيره وترجو غيره لم تأت بالأمر الذي ينبغي ، فلو عملت ما عرفت لرجوت الله وحده حين عرفت أنه لا [ ص: 257 ] يفعل فعله غيره ، فالقول فيمن يقصر علم قلبه أنه ناقص التوحيد ؛ لأن القلب مشتغل بالفتنة التي هي آفة التوحيد ، قلت : ما هو ؟ قال : ظنك أن شيئا يفعل فعل الله ، فاسم ذلك الظن فتنة ، والفتنة هي الشرك اللطيف ، قلت : أوليس الفتنة من أعمال القلب ؟ قال : لا ، ولكنها داخلة عليه ومفسدة له ، قلت : وما هي ؟ قال : ظنك بالله ، إذ ظننت أن من يشاء يفعل فعله ، والكلام في هذا يطول ، ولكن من يفهم يقنع باليسير " .

سمعت الحسين بن موسى ، يقول : سمعت أبا نصر الطوسي ، يقول : سمعت عبد الواحد بن علوان ، يقول : سمعت الجنيد ، يقول فيما يعظني به : " يا فتى ، الزم العلم ولو ورد عليك من الأحوال ما ورد ، ويكون العلم مصحوبك ، فالأحوال تندرج فيك وتنفد ؛ لأن الله عز وجل يقول : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) .

أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير ، فيما كتب إلي ، وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، قال : " رأيت الجنيد في النوم ، فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : طاحت تلك الإشارات ، وغابت تلك العبارات ، وفنيت تلك العلوم ، ونفدت تلك الرسوم ، وما نفعنا إلا ركيعات ، كنا نركعها في الأسحار " .

سمعت أبا الحسن بن مقسم ، يقول : سمعت أبا الحسين بن الدراج ، يقول : ذكر الجنيد أهل المعرفة بالله وما يراعونه من الأوراد والعبادات بعد ما ألطفهم الله به من الكرامات ، فقال الجنيد : " العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رءوس الملوك " .

أخبرني جعفر بن محمد في كتابه ، وحدثني عنه الحسين بن يحيى الفقيه الأسفيعاني ، قال : سمعت الجنيد ، يقول : " الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول واتبع سنته ولزم طريقته ، فإن طريق الخيرات كلها مفتوحة عليه " .

وقرأت على محمد بن علي بن حبيش ، فقلت : سمعت أبا القاسم الجنيد بن محمد ، يقول : " سألت عن المعرفة وأسبابها ، فالمعرفة من الخاصة والعامة هي معرفة واحدة ؛ لأن المعروف بها واحد ، ولكن لها أول وأعلى ، فالخاصة [ ص: 258 ] في أعلاها ، وإن كان لا يبلغ منها غاية ولا نهاية ، إذ لا غاية للمعروف عند العارفين ، وكيف تحيط المعرفة بمن لا تلحقه الفكرة ، ولا تحيط به العقول ، ولا تتوهمه الأذهان ، ولا تكيفه الرؤية ؟ وأعلم خلقه به أشدهم إقرارا بالعجز عن إدراك عظمته أو تكشف ذاته لمعرفتهم بعجزهم عن إدراك من لا شيء مثله ، إذ هو القديم ، وما سواه محدث ، وإذ هو الأزلي ، وغيره المبدأ ، وإذ هو الإله ، وما سواه مألوه ، وإذ هو القوي من غير مقو ، وكل قوي فبقوته قوي ، وإذ هو العالم من غير معلم ، ولا فائدة استفادها من غيره ، وكل عالم فبعلمه علم ، سبحانه الأول بغير بداية ، والباقي إلى غير نهاية ، ولا يستحق هذا الوصف غيره ، ولا يليق بسواه ، فأهل الخاصة من أوليائه في أعلى المعرفة من غير أن يبلغوا منها غاية ولا نهاية ، والعامة من المؤمنين في أولها ، ولها شواهد ودلائل من العارفين على أعلاها وعلى أدناها ، فالشاهد على أدناها الإقرار بتوحيد الله ، وخلع الأنداد من دونه ، والتصديق به وبكتابه وفرضه فيه ونهيه .

والشاهد على أعلاها القيام فيه بحقه ، واتقاؤه في كل وقت ، وإيثاره في جميع خلقه ، واتباع معالي الأخلاق ، واجتناب ما لا يقرب منه ، فالمعرفة التي فضلت الخاصة على العامة هي عظيم المعرفة في قلوبهم بعظيم القدر والإجلال ، والقدرة النافذة ، والعلم المحيط ، والجود ، والكرم والآلاء ؛ فعظم في قلوبهم قدره وقدر جلالته ، وهيبته ونفاذ قدرته ، وأليم عذابه ، وشدة بطشه ، وجزيل ثوابه ، وكرمه وجوده بجنته ، وتحننه وكثرة أياديه ونعمه ، وإحسانه ورأفته ورحمته ، فلما عظمت المعرفة بذلك عظم القادر في قلوبهم ، فأجلوه ، وهابوه ، وأحبوه ، واستحيوا منه ، وخافوه ورجوه ، فقاموا بحقه واجتنبوا كل ما نهى عنه ، وأعطوه المجهود من قلوبهم وأبدانهم ، أزعجهم على ذلك ما استقر في قلوبهم من عظيم المعرفة بعظيم قدره وقدر ثوابه وعقابه ، فهم أهل الخاصة من أوليائه ، فلذلك قيل : فلان بالله عارف ، وفلان بالله عالم لما رأوه مجلا هائبا راهبا راجيا طالبا مشتاقا ورعا متقيا باكيا حزينا خاضعا متذللا ، فلما ظهرت منهم هذه الأخلاق عرف المسلمون أنهم بالله أعرف وأعلم من [ ص: 259 ] عوام المسلمين ، وكذلك وصفهم الله فقال : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ، وقال داود عليه السلام : إلهي ما علم من لم يخشك ، فالمعرفة التي فضلت بها الخاصة العامة هي عظيم المعرفة ، فإذا عظمت المعرفة بذلك واستقرت ولزمت القلوب صارت يقينا قويا ، فكملت حينئذ أخلاق العبد وتطهر من الأدناس ، فنال به عظيم المعرفة بعظيم القدر والجلال والتذكر والتفكر في الخلق ، كيف خلقهم وأتقن صنعتهم ؟ وفي المقادير كيف قدرها ، فاتسقت على الهيئات التي هيأها ، والأوقات التي وقتها ، وفي الأمور كيف دبرها على إرادته ومشيئته ؟ فلم يمتنع منها شيء عن المضي على إرادته والاتساق على مشيئته ، وقد قال بعض أهل العلم : إن النظر في القدرة يفتح باب التعظيم لله في القلب ، ومر بعض الحكماء بمالك بن دينار ، فقال له مالك : عظنا رحمك الله ، فقال : بم أعظك ؟ إنك لو عرفت الله أغناك ذلك عن كل كلام ، لكن عرفوه على دلالة أنهم لما نظروا في اختلاف الليل والنهار ودوران هذا الفلك وارتفاع هذا السقف بلا عمد ، ومجاري هذه الأنهار والبحار علموا أن لذلك صانعا ومدبرا لا يعزب عنه مثقال ذرة من أعمال خلقه فعبدوه بدلائله على نفسه حتى كأنهم عاينوه ، والله في دار جلاله عن رؤيته ، ففي ذلك دليل أنهم بعظيم قدره أعرف وأعلم ، إذ هم له أجل وأهيب " .

التالي السابق


الخدمات العلمية