صفحة جزء
سمعت أبي يقول : سمعت أحمد بن جعفر بن هانئ ، يقول : سألت أبا القاسم الجنيد بن محمد عن قوله : ( لا أحب الآفلين ) ، قال : " لا أحب من يغيب عن عياني ، وعن قلبي ، وفي هذا دلالة أني إنما أحب من يدوم لي النظر إليه ، والعلم به حتى يكون ذلك موجودا غير مفقود ، وكذلك رأينا أن أشد الأشياء على المحبين أن يغيب عنهم من أحبوه ، وأن يفقدوا شاهدهم " .

سمعت أبي يقول : سمعت أحمد بن جعفر ، يقول : سألت أبا القاسم الجنيد بن محمد عن الإيمان ، ما هو ؟ فقال : " الإيمان هو التصديق والإيقان ، وحقيقة العلم بما غاب عن الأعيان ؛ لأن المخبر لي بما غاب عني إن كان عندي صادقا لا يعارضني في صدقه ريب ولا شك - أوجب علي تصديقي إياه ، إن ثبت لي العلم بما أخبر به ، ومن تأكيد حقيقة ذلك أن يكون تصديق الصادق عندي يوجب علي أن يكون ما أخبرني به كأني له معاين ، وذلك صفة قوة الصدق في التصديق ، وقوة الإيقان الموجب لاسم الإيمان " .

وقد روي عن الرسول صلى [ ص: 266 ] الله عليه وسلم أنه قال لرجل : " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، فأمره بحالتين إحداهما أقوى من الأخرى ؛ لأني كأني أرى الشيء بقوة العلم به ، وحقيقة التصديق له أقوى من أن أكون أعلم أن ذلك يراني ، وإن كان علمي بأنه يراني حقيقة علم موجبة للتصديق ، والمعنى الأول أولى وأقوى والفضل يجمعها على تقديم إحداهما على الأخرى ، قال أحمد : وسألته عن علامة الإيمان قال : الإيمان علامته طاعة من آمنت به ، والعمل بما يحبه ويرضاه وترك التشاغل عنه بشيء ينقضي عنده حتى أكون عليه مقبلا ، ولموافقته مؤثرا ولمرضاته متحريا ؛ لأن من صفة حقيقة علامة الإيمان ألا أوثر عليه شيئا دونه ولا أتشاغل عنه بسبب سواه حتى يكون المالك لسري والحاث لجوارحي بما أمرني من آمنت به وله عرفت ، فعند ذلك تقع الطاعة لله على الاستواء ومخالفة كل الأهواء ، والمجانبة لما دعت إليه الأعداء ، والمتاركة لما انتسب إلى الدنيا والإقبال على من هو أولى ، وهذه بعض الشواهد والعلامات فيما سألت عنه وصفة الكل يطول شرحه ، قال وسألته : ما الإيمان ؟ فقال : هذا سؤال لا حقيقة له ولا معنى ينبئ عن مزيد من علم ، وإنما هو الإيمان بالله جل ثناؤه مجردا ، وحقيقته في القلوب مفردا ، وإنما هو ما وقر في القلب من العلم بالله والتصديق ، وبما أخبر من أموره في سائر سماواته وأرضه مما ثبت في الإيقان ، وإن لم أره بالعيان ، فكيف يجوز أن يكون للصدق صدق ، وللإيقان إيقان ؟ وإنما الصدق فعل قلبي والإيقان ما استقر من العلم عندي ، فكيف يجوز أن يفعل فعلي ، وإنما أنا الفاعل ؟ ، أو يعلم علمي وإنما أنا العالم ؟ والسؤال في الابتداء غير مستقيم ولو جاز أن يكون للإيمان إيمان وللتصديق تصديق جاز أن يوالى ذلك ويكرر إلى غاية تكثر في العدد ، وجاز أن يكون كما عاد علي ثواب إيماني وثواب تصديقي أن يعود على إيمان إيماني ثواب ، وعلى تصديق تصديقي جزاء ، ولو أردت استقصاء القول في واجب ذلك لاتسع به الكتاب ، وطال به الخطاب ، وهذا مختصر من الجواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية