صفحة جزء
660 - ابن حفيف

ومنهم أبو عبد الله محمد بن حفيف ، الحنيف الظريف ، له الفصول في النصول ، والتحقق والتثبت في الوصول لقي الأكابر والأعلام ، صحب رويما وأبا العباس بن عطاء وطاهرا المقدسي ، وأبا عمرو الدمشقي ، وكان شيخ الوقت حالا وعلما ، توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة .

ومن مفاريد ما سمع منه ما أخبرنا في إجازته وكتابه إلي ، قال : حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن شاذهرمز ، ثنا زيد بن أخرم ، عن أبي داود ، عن شعبة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما عرج بي إلى السماء سمعت تذمرا ، فقلت : يا جبريل من هذا ؟ قال : موسى [ ص: 386 ] يتذمر على ربه ، فقلت : ولم ذلك ؟ قال : عرف ذلك منه فاحتمله " هذا من حديث شعبة متكرر ، وأبو داود وزيد ثبتان لا يحتملان هذا ، ولعله أدخل لابن شاذهرمز حديثا في حديث عبد الله بن مسعود .

حدثنا القاضي أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم ، ثنا شعيب بن أحمد الدارعي ، ثنا الخليل أبو عمرو ، وعيسى بن المساور ، قالا : ثنا مروان بن معاوية ، ثنا قنان بن عبد الله النهمي ، عن ابن ظبيان ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : سمعت كلاما في السماء ، فقلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا موسى ، قلت : ومن يناجي ؟ قال : ربه ، قلت : ويرفع صوته على ربه ؟ قال : إنه قد عرف له حدته " ومن أجوبته فيما سئل عن السكر ، فقال : غليان القلب عند معارضات ذكر المحبوب ، وقال : الخوف اضطراب القلب مما علم من سطوة المعبود وسئل عن الرياضة ، فقال : كسر النفوس بالخدمة ومنعها عن الفترة ، وقال : التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ، وقال : التوكل الاكتفاء بضمانه ، وإسقاط التهمة عن قضائه ، وقال : اليقين تحقيق الأسرار بأحكام المغيبات ، وقال : المشاهدة اطلاع القلوب بصفاء اليقين إلى ما أخبرنا الحق من الغيوب ، وقال : المعرفة مطالعة القلوب لإفراده عن مطالعة تعريفه ، وقال : التوحيد تحقيق القلوب بإثبات الموحد بكمال أسمائه وصفاته ووجود التوحيد مطالعة الأحدية على أرضات السرمدية ، والإيمان تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيوب ، ومواهب الإيمان بوادي أنواره والملبس لأسراره ، وظاهر الإيمان النطق بألوهيته على تعظيم أحديته ، وأفعال الإيمان التزام عبوديته والانقياد لقوله ، والإنابة التزام الخدمة وبذل المهجة ، والرجاء ارتياح القلوب لرؤية كرم الموجد ، وحقيقة الرجاء الاستبشار لوجود فضله وصحة وعده ، والزهد سلو القلب عن الأسباب ، ونفض الأيدي عن الأملاك ، وحقيقة الزهد التبرم بالدنيا ، ووجود الراحة في الخروج منها ، والقناعة الاكتفاء بالبلغة ، وحقيقة القناعة ترك التشوف إلى المفقود ، والاستغناء بالموجود ، وسئل عن الذكر ، فقال : اعلم أن المذكور واحد ، والذكر مختلف [ ص: 387 ] ومحل قلوب الذاكرين متفاوتة ، فأصل الذكر إجابة الحق من حيث اللوازم ، لقوله عليه السلام : " من أطاع الله فقد ذكر الله ، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته " ، ثم ينقسم الذكر قسمين : ظاهر وباطن فأما الظاهر فالتهليل والتحميد والتمجيد وتلاوة القرآن ، وأما الباطن فتنبيه القلوب على شرائط التيقظ على معرفة الله وأسمائه وصفاته وعلى أفعاله ، ونشر إحسانه وإمضاء تدبيره ونفاذ تقديره على جميع خلقه ، ثم يقع ترتيب الأذكار على مقدار الذاكرين فيكون ذكر الخائفين على مقدار قوارع الوعيد ، وذكر الراجين على ما استبان لهم من موعده ، وذكر المجتنبين على قدر تصفح النقباء ، وذكر المراقبين على قدر العلم باطلاع الله إليهم ، وذكر المتوكلين على قدر ما انكشف لهم من كفاية الكافي لهم ، وذلك مما يطول ذكره ويكثر شرحه ، فذكر الله منفرد وهو ذكر المذكور بانفراد أحديته على كل مذكور سواه ; لقوله تعالى : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " ، والثاني إفراد النطق بألوهيته ، لقوله عليه السلام : " أفضل الذكر لا إله إلا الله " .

قال الشيخ : سألتم عن إيداع ذكر جماعة من نساك بلدنا وعبادهم ليكون الكتاب مختوما بذكرهم ، ونشر أحوالهم ، واعلموا أن طريقة المتقدمين من نساك بلدنا القدوة والاتباع لمتقدميهم من العمال والعلماء الذين لحقوا الأئمة والأعلام .

وقد ذكرت جماعة منهم في كتابنا بطبقات المحدثين من الرواة من أهل بلدنا : منهم محمد بن يوسف المعداني المعروف بعروس الزهاد ، ومن ينحو نحوه في التنسك والتعبد ، والغالب من أحوالهم اغتنام الوقت وعنايتهم بجمع الهم ، ومحافظة الأوراد ، والتشمر للارتياد ، والتسارع إلى الاستباق ، فأما بسط الكلام في الأحوال والمقامات قولا بلا فعل فيرونه دعاوى لا حقيقة لها يحترزون منها غاية التحرز ، لا يريدون عما حواليهم بدلا ، ولا يبغون عنها حولا ، كانوا كما وصفهم به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، من أحوال المختارين من الصحابة والسالكين طريقتهم من التابعين فيما رواه عنه نوف البكالي وكميل [ ص: 388 ] بن زياد وغيرهما وهو .

ما حدثناه إبراهيم بن إسحاق ، ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ثنا علي بن حجر ، ثنا يوسف بن زياد ، عن يوسف بن أبي المتيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم قال : قال علي بن أبي طالب : " كونوا لقبول العمل أشد اهتماما بالعمل ، فإنه لن يقبل عمل إلا مع التقوى ، وكيف يقل عمل يتقبل ؟ كانوا بالله عالمين ولعباده ناصحين " .

كما حدثنا محمد بن أحمد بن الحسين ، ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، ثنا أبو نعيم بن ضرار بن صرد ، ثنا علي بن هاشم بن اليزيد ، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن عمر بن علي ، عن حسين ، عن أبيه ، عن علي ، قال : " أنصح الناس وأعلمهم بالله أشد الناس حبا وتعظيما لحرمة أهل لا إله إلا الله " .

وكما رواه عبد خير ، عن علي وهو ما حدثناه عن عمر بن محمد بن عبد الصمد ، ثنا الحسين بن محمد بن غفير ، ثنا الحسن بن علي السيسري ، ثنا خلف بن تميم ، ثنا عمر الرحال ، عن العلاء بن المسيب ، عن عبد خير ، عن علي ، قال : " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك وأن يعظم حلمك ، وأن تباهي الناس بعبادة ربك ، فإن أحسنت حمدت الله ، وإن أسأت استغفرت الله ، ولا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين : رجل أذنب ذنبا فهو يدارك ذلك الذنب بتوبة ، أو رجل يسارع في الخيرات ، ولا يقل عمل في تقوى ، وكيف يقل عمل يتقبل ؟ .

كانوا بالصحابة مقتدين ، ولصعالكهم مشبعين يصبحون شعثا غبرا صفرا بين أعينهم مثل ركب المعزى ، باتوا يتلون كتاب الله ، يميدون عند ذكر الله كما تميد الشجرة في يوم ريح ، كانوا مصابيح الهدى ، لم يكونوا بالجفاة المرائين ، خلق الثياب جدد القلوب ، في الدنيا زاهدين ، وفي الآخرة راغبين ، وعن الله فهمين وفي قراءة كلامه متدبرين ، وبمواعظه متعظين ، وبصنائعه معتبرين ، اتخذوا الأرض بساطا ، ورمالها فراشا والقرآن والدعاء دثارا وشعارا عبدوه في بيوت بالقلوب الطاهرة والأبصار الخاشعة ، هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فقاموا لله بحجته وتبيانه فاستلانوا ما استوعره المترفون [ ص: 389 ] وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى .

فهذه نعوت الأصفياء من الأولياء ، والنجباء من الأتقياء ، من سلك مسلكهم مقتديا بأفعالهم مراعيا لأحوالهم المنتفع برؤيته ، والمغبوط بمحبته وصحبته " .

حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا إسحاق بن إبراهيم ، ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن شمر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا أيها الناس ألا أنبئكم بخياركم ؟ " قالوا : بلى قال : " الذين إذا رءوا ذكر الله وإذا تكلموا كان كلامهم لعز الإسلام ، ونجاة النفوس وصلاحها لا لعز النفوس وطلب الدنيا وقبول الخلق ، وكانوا لعلمهم مستعملين ، ولرأيهم متهمين ، ولسبيل أسلافهم متبعين ، وبكتاب الله وسنة نبيه متمسكين ، الخشوع لباسهم والورع زينتهم والخشية حليتهم ، كلامهم الذكر وصمتهم الفكر ، نصيحتهم للناس مبذولة وشرورهم عنهم مخزونة ، وعيوب الناس عندهم مدفونة ، ورثوا جلاسهم الزهد في الدنيا لإعراضهم وإدبارهم عنها ، ورغبوهم في الآخرة لإقبالهم وحرصهم عليها " .

التالي السابق


الخدمات العلمية