صفحة جزء
حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن مقسم ، حدثنا العباس بن يوسف الشكلي ، حدثني محمد بن عبد الملك ، قال : قال عبد الباري : قلت لذي النون المصري رحمه الله : صف لي الأبدال ، فقال : إنك لتسألني عن دياجي الظلم ، لأكشفنها لك عبد الباري ، هم قوم ذكروا الله عز وجل بقلوبهم تعظيما لربهم عز وجل ، لمعرفتهم بجلاله ، فهم حجج الله تعالى على خلقه ، ألبسهم النور الساطع من محبته ، ورفع لهم أعلام الهداية إلى مواصلته ، وأقامهم مقام الأبطال لإرادته ، وأفرغ عليهم الصبر عن مخالفته ، وطهر أبدانهم بمراقبته ، وطيبهم بطيب أهل مجاملته ، وكساهم حللا من نسج مودته ، ووضع على رءوسهم تيجان مسرته ، ثم أودع القلوب من ذخائر الغيوب فهي معلقة بمواصلته ، فهمومهم إليه ثائرة ، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة . قد أقامهم على باب النظر من قربه ، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته ، ثم قال : إن أتاكم عليل من فقري فداووه ، أو مريض من فراقي فعالجوه ، أو خائف مني فآمنوه ، أو آمن مني فحذروه ، أو راغب في مواصلتي فهنئوه ، أو راحل نحوي فرودوه ، أو جبان في متاجرتي فشجعوه ، أو آيس من فضلي فعدوه ، أو راج لإحساني فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو محب لي فواظبوه ، أو معظم لقدري فعظموه ، أو مستوصفكم نحوي فأرشدوه ، أو مسيء بعد إحسان فعاتبوه ، ومن واصلكم في فواصلوه ، ومن غاب عنكم فافتقدوه ، ومن ألزمكم جناية فاحتملوه ، ومن قصر في واجب حقي فاتركوه ، ومن أخطأ خطيئة فناصحوه ، ومن مرض من أوليائي فعودوه ، [ ص: 13 ] ومن حزن فبشروه ، وإن استجار بكم ملهوف فأجيروه .

يا أوليائي لكم عاتبت ، وفي إياكم رغبت ، ومنكم الوفاء طلبت ، ولكم اصطفيت وانتخبت ، ولكم استخدمت واختصصت ، لأني لا أحب استخدام الجبارين ، ولا مواصلة المتكبرين ، ولا مصافاة المخلطين ، ولا مجاوبة المخادعين ، ولا قرب المعجبين ، ولا مجالسة البطالين ، ولا موالاة الشرهين .

يا أوليائي جزائي لكم أفضل الجزاء ، وعطائي لكم أجزل العطاء ، وبذلي لكم أفضل البذل ، وفضلي عليكم أكثر الفضل ، ومعاملتي لكم أوفى المعاملة ، ومطالبتي لكم أشد المطالبة ، أنا مجتني القلوب ، وأنا علام الغيوب ، وأنا مراقب الحركات ، وأنا ملاحظ اللحظات ، أنا المشرف على الخواطر ، أنا العالم بمجال الفكر ، فكونوا دعاة إلي ، لا يفزعكم ذو سلطان سوائي ، فمن عاداكم عاديته ، ومن والاكم واليته ، ومن آذاكم أهلكته ، ومن أحسن إليكم جازيته ، ومن هجركم قليته .

قال الشيخ رحمه الله : وهم الشغفون به وبوده ، والكلفون بخطابه وعهده .

حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا ابن منصور المدايني ، حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي ، حدثنا عبد الله بن محمد بن الحسن بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن موسى - عليه السلام - قال : يا رب ، أخبرني بأكرم خلقك عليك ، قال : الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه ، والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالناس ، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي غضب النمر لنفسه ، فإن النمر إذا غضب لم يبال أقل الناس أم كثروا " .

حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان الحناط ، حدثنا أبو الفيض ذو النون بن إبراهيم المصري قال : إن لله عز وجل لصفوة من خلقه ، وإن لله عز وجل لخيرة ، فقيل له : يا أبا الفيض ، فما علامتهم ؟ قال : إذا خلع العبد الراحة ، وأعطى المجهود في الطاعة ، وأحب سقوط المنزلة . ثم قال :

[ ص: 14 ]

منع القران بوعده ووعـيده مقل العيون بليلها أن تهجعا     فهموا عن الملك الكريم كلامه
فهما تذل له الرقاب وتخضعا

وقال له بعض من كان في المجلس حاضرا : يا أبا الفيض ، من هؤلاء القوم يرحمك الله ؟ فقال : ويحك ! هؤلاء قوم جعلوا الركب لجباههم وسادا ، والتراب لجنوبهم مهادا ، هؤلاء قوم خالط القرآن لحومهم ودمائهم ، فعزلهم عن الأزواج وحركهم بالإدلاج ، فوضعوه على أفئدتهم فانفرجت ، وضموه إلى صدورهم فانشرحت ، وتصدعت هممهم به فكدحت ، فجعلوه لظلمتهم سراجا ، ولنومهم مهادا ، ولسبيلهم منهاجا ، ولحجتهم أفلاجا ، يفرح الناس ويحزنون ، وينام الناس ويسهرون ، ويفطر الناس ويصومون ، ويأمن الناس ويخافون ، فهم خائفون حذرون ، وجلون مشفقون مشمرون ، يبادرون من الفوت ، ويستعدون للموت ، لم يتصغر جسيم ذلك عندهم لعظم ما يخافون من العذاب ، وخطر ما يوعدون من الثواب ، درجوا على شرائع القرآن ، وتخلصوا بخالص القربان ، واستناروا بنور الرحمن ، فما لبثوا أن أنجز لهم القرآن موعوده ، وأوفى لهم عهوده ، وأحلهم سعوده ، وأجارهم وعيده ، فنالوا به الرغائب ، وعانقوا به الكواعب ، وأمنوا به العواطب ، وحذروا به العواقب ، لأنهم فارقوا بهجة الدنيا بعين قالية ، ونظروا إلى ثواب الآخرة بعين راضية ، واشتروا الباقية بالفانية ، فنعم ما اتجروا ، ربحوا الدارين ، وجمعوا الخيرين ، واستكملوا الفضلين ، بلغوا المنازل بصبر أيام قلائل ، قطعوا الأيام باليسير ، حذار يوم قمطرير ، وسارعوا في المهلة ، وبادروا خوف حوادث الساعات ، ولم يركبوا أيامهم باللهو واللذات ، بل خاضوا الغمرات للباقيات الصالحات ، أوهن والله قوتهم التعب ، وغير ألوانهم النصب ، وذكروا نارا ذات لهب ، مسارعين إلى الخيرات ، منقطعين عن اللهوات ، بريئون من الريب والخنا ، فهم خرس فصحاء ، وعمي بصراء ، فعنهم تقصر الصفات ، وبهم تدفع النقمات ، وعليهم تنزل البركات ، فهم أحلى الناس منطقا ومذاقا ، وأوفى [ ص: 15 ] الناس عهدا وميثاقا ، سراج العباد ، ومنار البلاد ، مصابيح الدجى ، ومعادن الرحمة ، ومنابع الحكمة ، وقوام الأمة ، تجافت جنوبهم عن المضاجع ، فهم أقبل الناس للمعذرة ، وأصفحهم للمغفرة ، وأسمحهم بالعطية ، فنظروا إلى ثواب الله عز وجل بأنفس تائقة ، وعيون رامقة ، وأعمال موافقة ، فحلوا عن الدنيا مطي رحالهم ، وقطعوا منها حبال آمالهم ، لم يدع لهم خوف ربهم عز وجل من أموالهم تليدا ولا عتيدا ، فتراهم لم يشتهوا من الأموال كنوزها ، ولا من الأوبار خزوزها ، ولا من المطايا عزيزها ، ولا من القصور مشيدها ، بلى ! ولكنهم نظروا بتوفيق الله تعالى لهم وإلهامه إياهم ، فحركهم ما عرفوا بصبر أيام قلائل ، فضموا أبدانهم عن المحارم ، وكفوا أيديهم عن ألوان المطاعم ، وهربوا بأنفسهم عن المآثم ، فسلكوا من السبيل رشاده ، ومهدوا للرشاد مهاده ، فشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم ، عزوا عن الرزايا ، وغصص المنايا ، هابوا الموت وسكراته وكرباته وفجعاته ، ومن القبر وضيقه ، ومنكر ونكير ومن ابتدارهما وانتهارهما وسؤالهما ، ومن المقام بين يدي الله عز ذكره ، وتقدست أسماؤه .

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله : وهم مصابيح الدجى ، وينابيع الرشد والحجى ، خصوا بخفي الاختصاص ، ونقوا من التصنع بالإخلاص .

حدثنا عبد الله بن محمد ، وأبو أحمد محمد بن أحمد - في جماعة - قالوا : حدثنا الفضل بن الحباب ، حدثنا شاذ بن فياض ، حدثنا أبو قحذم ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، قال : مر عمر بمعاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنهما - وهو يبكي ، فقال : ما يبكيك يا معاذ ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أحب العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء ، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا شهدوا لم يعرفوا ، أولئك هم أئمة الهدى ومصابيح العلم " .

حدثنا أبو عمرو بن حمدان ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا أبو موسى إسحاق بن إبراهيم الهروي ، حدثنا أبو معاوية عمرو بن عبد الجبار السنجاري ، حدثنا عبيدة بن حسان ، عن عبد الحميد بن ثابت بن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم [ ص: 16 ] قال : حدثني أبي ، عن جدي : شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلسا ، فقال : " طوبى للمخلصين ، أولئك مصابيح الهدى ، تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " .

قال الشيخ رحمه الله : وهم الواصلون بالحبل ، والباذلون للفضل ، والحاكمون بالعدل .

حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا يحيى بن إسحاق السليحيني ، حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتدرون من السابقون إلى ظل الله عز وجل ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم " . رواه أحمد بن حنبل عن يحيى بن إسحاق مثله .

قال الشيخ رحمه الله : وهم المنبسطون جهرا ، المنقبضون سرا ، يبسطهم روح الارتياح والاشتياق ، ويقلقهم خوف القطيعة والفراق .

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا الوليد بن إسماعيل الحراني ، حدثنا شيبان بن مهران ، عن خالد بن المغيرة بن قيس ، عن مكحول ، عن عياض بن غنم أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن من خيار أمتي- فيما نبأني الملأ الأعلى ، في الدرجات العلى - قوما يضحكون جهرا من سعة رحمة ربهم ، ويبكون سرا من خوف شدة عذاب ربهم عز وجل ، يذكرون ربهم بالغداة والعشي ، في بيوته الطيبة ، ويدعونه بألسنتهم رغبا ورهبا ، ويسألونه بأيديهم خفضا ورفعا ، ويشتاقون إليه بقلوبهم عودا وبدءا ، مؤنتهم على الناس خفيفة ، وعلى أنفسهم ثقيلة ، يدبون في الأرض حفاة على أقدامهم دبيب النمل بغير مرح ولا بذخ ولا مثلة ، يمشون بالسكينة ، ويتقربون بالوسيلة ، يلبسون الخلقان ، ويتبعون البرهان ، ويتلون الفرقان ، ويقربون القربان ، عليهم من الله تعالى شهود حاضرة ، وأعين حافظة ونعم ظاهرة ، يتوسمون العباد ، ويتفكرون في البلاد ، أجسادهم في الأرض وأعينهم في السماء ، أقدامهم في الأرض وقلوبهم في السماء ، وأنفسهم في الأرض وأفئدتهم عند العرش ، أرواحهم في الدنيا وعقولهم في الآخرة ، [ ص: 17 ] ليس لهم هم إلا أمامهم ، قبورهم في الدنيا ، ومقامهم عند ربهم عز وجل ، ثم تلى هذه الآية : ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) .

قال الشيخ رحمه الله : وهم المبادرون إلى الحقوق من غير تسويف ، والموفون الطاعات من غير تطفيف .

حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن موسى الأيلي ، ثنا عمر بن يحيى الأيلي ، ثنا حكيم بن حزام ، عن أبي جناب الكلبي ، عن أبي الزبير ، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن من موجبات الله ثلاثا : إذا رأى حقا من حقوق الله لم يؤخره إلى أيام لا يدركها ، وأن يعمل العمل الصالح العلانية على قوام من عمله في السريرة ، وهو يجمع مع ما يعمل صلاح ما يأمل " . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فهكذا ولى الله وعدد بيده ثلاثا " .

حدثنا أبو بكر بن خلاد ، ثنا الحارث بن أبي أسامة ، ثنا داود بن المحبر ، ثنا ميسرة بن عبد ربه ، عن حنظلة بن وداعة ، عن أبيه ، عن البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن لله عز وجل خواص يسكنهم الرفيع من الجنان كانوا أعقل الناس " قلنا : يا رسول الله ، وكيف كانوا أعقل الناس ؟ قال : " كانت همتهم المسابقة إلى ربهم عز وجل ، والمسارعة إلى ما يرضيه ، وزهدوا في فضول الدنيا ورياستها ونعيمها ، وهانت عليهم ، فصبروا قليلا ، واستراحوا طويلا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية