صفحة جزء
كتابه إلى عمر بن عبد العزيز

حدثنا أبو حامد بن جبلة ، قال : ثنا أبو العباس السراج ، قال : ثنا عبيد الله بن حرب بن جبلة ، ثنا حمزة بن رشيد أبو علي ، قال : حدثني عمرو بن عبد الله القرشي ، عن أبي حميد الشامي ، قال : كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز . وحدثني محمد بن بدر ، قال : ثنا حماد بن مدرك ، قال : ثنا يعقوب بن سفيان ، قال : ثنا محمد بن يزيد الليثي ، قال : ثنا معن بن عيسى ، قال : ثنا إبراهيم ، عن عبد الله بن أبي الأسود ، عن الحسن ، أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز - والسياق لأبي حميد الشامي - : اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به ، والندم على الشر يدعو إلى [ ص: 135 ] تركه ، وليس ما يفنى وإن كان كثيرا يعدل ما يبقى وإن كان طلبه عزيزا ، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مؤونة باقية ، فاحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينت بخدعها ، وغرت بغرورها ، وقتلت أهلها بأملها ، وتشوفت لخطابها ، فأصبحت كالعروس المجلوة ، العيون إليها ناظرة ، والنفوس لها عاشقة ، والقلوب إليها والهة ، ولألبابها دامغة ، وهي لأزواجها كلهم قاتلة . فلا الباقي بالماضي معتبر ، ولا الآخر بما رأى من الأول مزدجر ، ولا اللبيب بكثرة التجارب منتفع ، ولا العارف بالله والمصدق له حين أخبر عنها مدكر ، فأبت القلوب لها إلا حبا ، وأبت النفوس بها إلا ضنا ، وما هذا منا لها إلا عشقا ، ومن عشق شيئا لم يعقل غيره ، ومات في طلبه أو يظفر به ، فهما عاشقان طالبان لها ؛ فعاشق قد ظفر بها واغتر وطغى ونسي بها المبدأ والمعاد ، فشغل بها لبه ، وذهل فيها عقله ، حتى زلت عنها قدمه ، وجاءته أسر ما كانت له منيته ، فعظمت ندامته ، وكثرت حسرته ، واشتدت كربته مع ما عالج من سكرته . واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه ، وحسرة الموت بغصته ، غير موصوف ما نزل به . وآخر مات قبل أن يظفر منها بحاجته ، فذهب بكربه وغمه لم يدرك منها ما طلب ، ولم يرح نفسه من التعب والنصب . خرجا جميعا بغير زاد ، وقدما على غير مهاد .

فاحذرها الحذر كله ؛ فإنها مثل الحية لين مسها وسمها يقتل ، فأعرض عما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها ، وضع عنك همومها لما عانيت من فجائعها وأيقنت به من فراقها ، وشدد ما اشتد منها لرخاء ما يصيبك ، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها ، فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أشخصته عنها بمكروه ، وكلما ظفر بشيء منها وثنى رجلا عليه انقلبت به ، [ ص: 136 ] فالسار فيها غار ، والنافع فيها غدا ضار ، وصل الرخاء فيها بالبلاء ، وجعل البقاء فيها إلى فناء ، سرورها مشوب بالحزن ، وآخر الحياة فيها الضعف والوهن ، فانظر إليها نظر الزاهد المفارق ، ولا تنظر نظر العاشق الوامق ، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن ، وتفجع المغرور الآمن ، لا يرجع ما تولى منها فأدبر ، ولا يدرى ما هو آت فيها فينتظر .

فاحذرها فإن أمانيها كاذبة ، وإن آمالها باطلة ، عيشها نكد ، وصفوها كدر ، وأنت منها على خطر . إما نعمة زائلة ، وإما بلية نازلة ، وإما مصيبة موجعة ، وإما منية قاضية ، فلقد كدت عليه المعيشة إن عقل ، وهو من النعماء على خطر ، ومن البلوى على حذر ، ومن المنايا على يقين ؛ فلو كان الخالق تعالى لم يخبر عنها بخبر ، ولم يضرب لها مثلا ، ولم يأمر فيها بزهد ؛ لكانت الدار قد أيقظت النائم ، ونبهت الغافل ، فكيف وقد جاء من الله تعالى عنها زاجر ، وفيها واعظ . فما لها عند الله عز وجل قدر ، ولا لها عند الله تعالى وزن من الصغر ، ولا تزن عند الله تعالى مقدار حصاة من الحصا ، ولا مقدار ثراة في جميع الثرى ، ولا خلق خلقا فيما بلغت أبغض إليه من الدنيا ، ولا نظر إليها منذ خلقها مقتا لها ، ولقد عرضت على نبينا - صلى الله عليه وسلم - بمفاتيحها وخزائنها ولم ينقصه ذلك عنده جناح بعوضة فأبى أن يقبلها ، وما منعه من القبول لها ، ولا ينقصه عند الله تعالى شيء إلا أنه علم أن الله تعالى أبغض شيئا فأبغضه ، وصغر شيئا فصغره ، ووضع شيئا فوضعه ، ولو قبلها كان الدليل على حبه إياها قبولها ، ولكنه كره أن يحب ما أبغض خالقه ، وأن يرفع ما وضع مليكه .

ولو لم يدله على صغر هذه الدار إلا أن الله تعالى حقرها أن يجعل خيرها ثوابا للمطيعين ، وأن يجعل عقوبتها عذابا للعاصين . فأخرج ثواب الطاعة منها وأخرج عقوبة المعصية عنها . وقد يدلك على شر هذه الدار أن الله تعالى [ ص: 137 ] زواها عن أنبيائه وأحبائه اختبارا ، وبسطا لغيرهم اعتبارا واغترارا ؛ ويظن المغرور بها والمفتون عليها أنه إنما أكرمه بها ، ونسي ما صنعه بمحمد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وموسى المختار - عليه السلام - بالكلام له ومناجاته ، فأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فشد الحجر على بطنه من الجوع ، وأما موسى - عليه السلام - فرئي خضرة البقل من صفاق بطنه من هذاله ، ما سأل الله تعالى يوم أوى إلى الظل إلا طعاما يأكله من جوعه . ولقد جاءت الروايات عنه أن الله تعالى أوحى إليه ؛ أن يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين ، وإذا رأيت الغنى قد أقبل فقل ذنب عجلت عقوبته . وإن شئت ثلثته بصاحب الروح والكلمة ففي أمره عجيبة ، كان يقول : أدمي الجوع وشعاري الخوف ، ولباسي الصوف ودابتي رجلي ، وسراجي بالليل القمر ، وصلايتي في الشتاء الشمس ، وفاكهتي وريحاني ما أنبتت الأرض للسباع والأنعام . أبيت وليس لي شيء وليس أحد أغنى مني . ولو شئت ربعت بسليمان بن داود عليهما السلام ، فليس دونهم في العجب . يأكل خبز الشعير في خاصته ويطعم أهله الخشكار والناس الدرمك ، فإذا جنه الليل لبس المسوح وغل اليد إلى العنق وبات باكيا حتى يصبح ، يأكل الخشن من الطعام ويلبس الشعر من الثياب . كل هذا يبغضون ما أبغض الله عز وجل ، ويصغرون ما صغر الله تعالى ، ويزهدون فيما زهد . ثم اقتص الصالحون بعد منهاجهم ، وأخذوا بآثارهم وألزموا الكد والعبر وألطفوا التفكر ، وصبروا في مدة الأجل القصير ، عن متاع الغرور الذي إلى الفناء يصير ، ونظروا إلى آخر الدنيا ولم ينظروا إلى أولها ، ونظروا إلى عاقبة مرارتها ولم ينظروا إلى عاجلة حلاوتها ؛ ثم ألزموا أنفسهم الصبر ، أنزلوها من أنفسهم بمنزلة الميتة التي لا يحل الشبع منها إلا في حال الضرورة إليها ؛ فأكلوا منها بقدر ما يرد النفس ويقي [ ص: 138 ] الروح ، ومكن اليوم ، وجعلوها بمنزلة الجيفة التي اشتد نتن ريحها فكل من مر بها أمسك على أنفه منها ، فهم يصيبون منها لحال الضر ولا ينتهون منها إلى الشبع من النتن ، فغربت عنهم وكانت هذه منزلتها من أنفسهم ، فهم يعجبون من الآكل منها شبعا ، والمتلذذ بها أشرا . ويقولون في أنفسهم : أما ترى هؤلاء لا يخافون من الأكل ، أما يجدون ريح النتن ؟ وهي والله يا أخي في العاقبة والآجلة أنتن من الجيفة المرصوفة ، غير أن أقواما استعجلوا الصبر فلا يجدون ريح النتن ، والذي نشأ في ريح الإهاب النتن لا يجد نتنه ، ولا يجد من ريحه ما يؤذي المارة والجالس عنده ، وقد يكفي العاقل منهم أنه من مات عنها وترك مالا كثيرا سره أنه كان فيها فقيرا ، أو شريفا أنه كان فيها وضيعا ، أو كان فيها معافى سره أنه كان فيها مبتلى ، أو كان مسلطنا سره أنه كان فيها سوقة . وإن فارقتها سرك أنك كنت أوضع أهلها ضعة ، وأشدهم فيها فاقة ، أليس ذلك الدليل على خزيها لمن يعقل أمرها .

والله لو كانت الدنيا من أراد منها شيئا وجده إلى جنبه من غير طلب ولا نصب ، غير أنه إذا أخذ منها شيئا لزمته حقوق الله فيه وسأله عنه ووقفه على حسابه ، لكان ينبغي للعاقل أن لا يأخذ منها إلا قدر قوته وما يكفي ، حذر السؤال وكراهية لشدة الحساب ، وإنما الدنيا إذا فكرت فيها ثلاثة أيام ؛ يوم مضى لا ترجوه ، ويوم أنت فيه ينبغي أن تغتنمه ، ويوم يأتي لا تدري أنت من أهله أم لا ؟ ولا تدري لعلك تموت قبله .

فأما أمس فحكيم مؤدب ، وأما اليوم فصديق مودع ، غير أن أمس وإن كان قد فجعك بنفسه فقد أبقى في يديك حكمته ، وإن كنت قد أضعته فقد جاءك خلف منه وقد كان عنك طويل الغيبة وهو الآن عنك سريع الرحلة ، وغدا أيضا في يديك منه أمله . فخذ الثقة بالعمل ، واترك الغرور بالأمل قبل حلول الأجل ، وإياك أن تدخل على اليوم هم غد أو هم ما بعده ، زدت في حزنك وتعبك وأردت أن [ ص: 139 ] تجمع في يومك ما يكفيك أيامك ، هيهات كثر الشغل وزاد الحزن وعظم التعب وأضاع العبد العمل بالأمل .

ولو أن الأمل في غدك خرج من قلبك أحسنت اليوم في عملك ، واقتصرت لهم يومك ، غير أن الأمل منك في الغد دعاك إلى التفريط ، ودعاك إلى المزيد في الطلب ، ولئن شئت واقتصرت لأصفن لك الدنيا ساعة بين ساعتين ، ساعة ماضية ، وساعة آتية ، وساعة أنت فيها . فأما الماضية والباقية فليس تجد لراحتهما لذة ، ولا لبلائهما ألما . وإنما الدنيا ساعة أنت فيها فخدعتك تلك الساعة عن الجنة وصيرتك إلى النار . وإنما اليوم إن عقلت ضيف نزل بك وهو مرتحل عنك ، فإن أحسنت نزله وقراه شهد لك وأثنى عليك بذلك وصدق فيك ، وإن أسأت ضيافته ولم تحسن قراه جال في عينيك . وهما يومان بمنزلة الأخوين نزل بك أحدهما فأسأت إليه ولم تحسن قراه فيما بينك وبينه ، فجاءك الآخر بعده ، فقال : إني قد جئتك بعد أخي فإن إحسانك إلي يمحو إساءتك إليه ، ويغفر لك ما صنعت ، فدونك إذ نزلت بك وجئتك بعد أخي المرتحل عنك فقد ظفرت بخلف منه إن عقلت ، فدارك ما قد أضعت . وإن ألحقت الآخر بالأول فما أخلقك أن تهلك بشهادتهما عليك .

إن الذي بقي من العمر لا ثمن له ولا عدل ، فلو جمعت الدنيا كلها ما عدلت يوما بقي من - عمر صاحبه ، فلا تبع اليوم وتعدله من الدنيا بغير ثمنه ، ولا يكونن المقبور أعظم تعظيما لما في يديك منك وهو لك ، فلعمري لو أن مدفونا في قبره قيل له هذه الدنيا أولها إلى آخرها ، تجعلها لولدك من بعدك يتنعمون فيها من ورائك ، فقد كنت وليس لك هم غيرهم أحب إليك أم يوم تترك فيه تعمل لنفسك لاختار ذلك ، وما كان ليجمع مع اليوم شيئا إلا اختار اليوم عليه رغبة فيه وتعظيما له ، بل لو اقتصر على ساعة خيرها وما بين أضعاف ما وصفت لك وأضعافه يكون لسواه إلا اختار الساعة لنفسه على أضعاف ذلك ليكون لغيره ، بل لو اقتصر على كلمة يقولها تكتب له وبين ما وصفت لك وأضعافه لاختار الكلمة الواحدة عليه ، فانتقد اليوم لنفسك وأبصر الساعة وأعظم الكلمة واحذر الحسرة عند نزول السكرة ، ولا تأمن أن تكون لهذا الكلام حجة ، نفعنا الله وإياك بالموعظة ، ورزقنا وإياك [ ص: 140 ] خير العواقب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية