صفحة جزء
المسألة الثانية : اختلف الناس في لفظ النكاح ، فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله : إنه حقيقة في العقد ، واحتجوا عليه بوجوه :

أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا نكاح إلا بولي وشهود " وقف النكاح على الولي والشهود ، والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء .

والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح ، ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء ، فلو كان النكاح اسما للوطء لامتنع كون النكاح مقابلا للسفاح .

وثالثها : قوله تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) [النور : 32] ولا شك أن لفظ ( أنكحوا ) لا يمكن حمله إلا على العقد .

ورابعها : قول الأعشى ، أنشده الواحدي في "البسيط" :


فلا تقربن من جارة إن سرها عليك حرام فانكحن أو تأيما



وقوله : ( فانكحن ) لا يحتمل إلا الأمر بالعقد ; لأنه قال : "لا تقربن جارة" يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء ، وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : إنه حقيقة في الوطء ، واحتجوا عليه بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [البقرة : 230] نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح ، والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه [ ص: 48 ] الصلاة والسلام : " لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء .

وثانيها : قوله عليه الصلاة والسلام : " ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون " أثبت النكاح مع عدم العقد .

وثالثها : أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء ، يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينه ، وفي المثل : أنكحنا الفرا فسنرى ، وقال الشاعر :


التاركين على طهر نساءهم     والناكحين بشطي دجلة البقرا



وقال المتنبي :


أنكحت صم حصاها خف يعملة     تعثرت بي إليك السهل والجبلا



ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد ، فوجب حمله عليه ، ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم ، ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعا ، قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرقت العرب في الاستعمال فرقا لطيفا حتى لا يحصل الالتباس ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة : أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته ، لم يريدوا غير المجامعة ; لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد ، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة ، فهذا تمام ما في هذا اللفظ من البحث ، وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله : ( ولا تنكحوا ) في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح .

التالي السابق


الخدمات العلمية