صفحة جزء
المسألة الخامسة : اختلف الناس في مدة الحيض ، فقال الشافعي رحمه الله تعالى : أقلها يوم وليلة ، وأكثرها خمسة عشر يوما ، وهذا قول علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والأوزاعي وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم ، وقال أبو حنيفة والثوري : أقله ثلاثة أيام ولياليهن ، فإن نقص عنه فهو دم فاسد ، وأكثره عشرة أيام ، قال أبو بكر الرازي في أحكام القرآن : وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء : إن أقل الحيض يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما ، ثم تركه . وقال مالك : لا تقدير لذلك في القلة والكثرة ، فإن وجد ساعة فهو حيض ، وإن وجد أياما فكذلك ، واحتج أبو بكر الرازي في أحكام القرآن على فساد قول مالك فقال : لو كان المقدار ساقطا في القليل والكثير لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود من المرأة فكان يلزم أن لا يوجد في الدنيا مستحاضة ; لأن كل ذلك الدم يكون حيضا على هذا المذهب ، وذلك باطل بإجماع الأمة ؛ ولأنه روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إني أستحاض فلا أطهر ، وأيضا روي أن حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لهما : إن جميع ذلك حيض ، بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة ، فبطل هذا القول ، والله أعلم .

واعلم أن هذه الحجة ضعيفة ; لأن لقائل أن يقول : إنما يميز دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصفات التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لدم الحيض ، فإذا علمنا ثبوتها حكمنا بالحيض ، وإذا علمنا عدمها حكمنا بعدم الحيض ، وإذا ترددنا في الأمرين كان طريان الحيض مجهولا , وبقاء التكليف الذي هو الأصل معلوم [ ص: 57 ] والمشكوك لا يعارض المعلوم ، فلا جرم حكم ببقاء التكاليف الأصلية ، فبهذا الطريق يميز الحيض عن الاستحاضة ، وإن لم يجعل للحيض زمان معين ، وحجة مالك من وجهين :

الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم بين علامة دم الحيض وصفته بقوله : " دم الحيض هو الأسود المحتدم " ، فمتى كان الدم موصوفا بهذه الصفة كان الحيض حاصلا ، فيدخل تحت قوله تعالى : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) وتحت قوله عليه السلام لفاطمة بنت أبي حبيش : "إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة " .

الحجة الثانية : أنه تعالى قال في دم الحيض : ( هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) ذكر وصف كونه أذى في معرض بيان العلة لوجوب الاعتزال ، وإنما كان أذى للرائحة المنكرة التي فيه ، واللون الفاسد وللحدة القوية التي فيه ، وإذا كان وجوب الاعتزال معللا بهذه المعاني فعند حصول هذه المعاني وجب الاحتراز عملا بالعلة المذكورة في كتاب الله تعالى على سبيل التصريح ، وعندي أن قول مالك قوي جدا ، أما الشافعي فاحتج على أبي حنيفة بوجهين :

الحجة الأولى : أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته وفي الزائد على العشرة بدليل أنه عليه السلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم ، فإذا وجد ذلك فقد حصل الحيض ، فيدخل تحت عموم قوله تعالى : ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) تركنا العمل بهذا الدليل في الأقل من يوم وليلة ، وفي الأكثر من خمسة عشر يوما بالاتفاق بيني وبين أبي حنيفة ، فوجب أن يبقى معمولا به في هذه المدة .

الحجة الثانية : للشافعي في جانب الزيادة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما وصف النسوان بنقصان الدين ، فسر ذلك بأن قال : تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي ، وهذا يدل على أن الحيض قد يكون خمسة عشر يوما ; لأن على هذا التقدير يكون الطهر أيضا خمسة عشر يوما ، فيكون الحيض نصف عمرها ، ولو كان الحيض أقل من ذلك لما وجدت امرأة لا تصلي نصف عمرها ، أجاب أبو بكر الرازي عنه من وجهين :

الأول : أن الشطر ليس هو النصف ، بل هو البعض .

والثاني : أنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضا نصف عمرها ; لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها .

والجواب عن الأول : أن الشطر هو النصف ، يقال : شطرت الشيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل : أجلب حلبا لك شطره ، أي : نصفه .

وعن الثاني أن قوله عليه السلام : " تمكث إحداهن شطر عمرها لا تصلي " إنما يتناول زمانا هي تصلي فيه ، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ ، واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة من وجوه :

الحجة الأولى : ما روي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة أيام " قال أبو بكر : فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد .

الحجة الثانية : ما روي عن أنس بن مالك ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي أنهما قالا : الحيض ثلاثة أيام وأربعة أيام إلى عشرة أيام ، وما زاد فهو استحاضة . والاستدلال به من وجهين :

أحدهما : أن القول إذا ظهر عن الصحابي ولم يخالفه أحد كان إجماعا .

والثاني : أن التقدير مما لا سبيل إلى العقل إليه متى روي عن الصحابي فالظاهر أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم .

الحجة الثالثة : قوله عليه السلام لحمنة بنت جحش : " تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض [ ص: 58 ] النساء في كل شهر " مقتضاه أن يكون حيض جميع النساء في كل شهر هذا القدر ، خالفنا هذا الظاهر في الثلاثة إلى العشرة فيبقى ما عداه على الأصل .

الحجة الرابعة : قوله عليه السلام في حق النساء : " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن ، فقيل : ما نقصان دينهن ؟ قال : تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي " . وهذا الخبر يدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليالي ، وأقلها ثلاثة ، وأكثرها عشرة ; لأنه لا يقال في الواحد والاثنين لفظ الأيام ، ولا يقال في الزائد على العشرة أيام ، بل يقال : أحد عشر يوما ، أما الثلاثة إلى العشرة فيقال فيها : أيام ، وأيضا قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : دعي الصلاة أيام أقرائك . ولفظ الأيام مختص بالثلاثة إلى العشرة ، وفي حديث أم سلمة في المرأة التي سألته أنها تهرق الدم ، فقال : لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيض من الشهر فلتترك الصلاة ذلك القدر من الشهر ، ثم لتغتسل ولتصل .

فإن قيل : لعل حيض تلك المرأة كان مقدرا بذلك المقدار .

قلنا : إنه عليه السلام ما سألها عن قدر حيضها ، بل حكم عليها بهذا الحكم مطلقا ، فدل على أن الحيض مطلقا مقدر بما ينطلق عليه لفظ الأيام ، وأيضا قال في حديث عدي بن ثابت : المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها ، وذلك عام في جميع النساء .

الحجة الخامسة : وهي حجة ذكرها الجبائي من شيوخ المعتزلة في "تفسيره" فقال : إن فرض الصوم والصلاة لازم يتعين للعمومات الدالة على وجوبهما ترك العمل بها في الثلاثة إلى العشرة ، فوجب بقاؤها على الأصل فيما دون الثلاثة وفوق العشرة ; وذلك لأن فيما دون الثلاثة حصل اختلاف للعلماء ، فأورث شبهة ، فلم نجعله حيضا ، وما زاد على العشرة ففيه أيضا اختلاف العلماء ، فأورث شبهة فلم نجعله حيضا ، فأما من الثلاثة إلى العشرة فهو متفق عليه فجعلناه حيضا ، فهذا خلاصة كلام الفقهاء في هذه المسألة . وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية