صفحة جزء
المسألة الثالثة : ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها ، فقوله : ( أنى شئتم ) محمول على ذلك ، ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن ، وسائر الناس كذبوا نافعا في هذه الرواية ، وهذا قول مالك ، واختيار السيد المرتضى من الشيعة ، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه ، وحجة من قال : إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه :

الحجة الأولى : أن الله تعالى قال في آية المحيض : ( قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه ، وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم . وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر ، فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة .

الحجة الثانية : قوله تعالى : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) وظاهر الأمر للوجوب ، ولا يمكن أن يقال : إنه يفيد وجوب إتيانهن ; لأن ذلك غير واجب ، فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن [ ص: 62 ] يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ، ثم هذا غير محمول على الدبر ; لأن ذلك بالإجماع غير واجب ، فتعين أن يكون محمولا على القبل ، وذلك هو المطلوب .

الحجة الثالثة : روى خزيمة بن ثابت أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : حلال ، فلما ولى الرجل دعاه فقال : كيف قلت في أي الخربتين ، أو في أي الخرزتين ، أو في أي الخصفتين ، أمن قبلها في قبلها فنعم ، أمن دبرها في قبلها فنعم ، أمن دبرها في دبرها فلا ، إن الله لا يستحي من الحق : " لا تأتوا النساء في أدبارهن " وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها ، والخرزة هي التي يثقبها الخراز ، كنى به عن المأتى ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته .

حجة من قال بالجواز وجوه :

الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية من وجهين :

الأول : أنه تعالى جعل الحرث اسما للمرأة فقال : ( نساؤكم حرث لكم ) فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين ، فلما قال بعده : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم ، فيكون هذا إطلاقا في إتيانهن على جميع الوجوه ، فيدخل فيه محل النزاع .

الوجه الثاني : أن كلمة ( أنى ) معناها أين ، قال الله تعالى : ( أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) [آل عمران : 37] والتقدير : من أين لك هذا ، فصار تقدير الآية : فأتوا حرثكم أين شئتم ، وكلمة : أين شئتم تدل على تعدد الأمكنة ، [كقولك : ] اجلس أين شئت ، ويكون هذا تخييرا بين الأمكنة .

إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها ، أو من دبرها في قبلها ; لأن على هذا التقدير المكان واحد ، والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان ، واللفظ اللائق به أن يقال : اذهبوا إليه كيف شئتم ، فلما لم يكن المذكور ههنا لفظة : كيف ، بل لفظة ( أنى ) ويثبت أن لفظة ( أنى ) مشعرة بالتخيير بين الأمكنة ، ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه .

الحجة الثانية لهم : التمسك بعموم قوله تعالى : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [المؤمنون : 6] ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع ، فوجب أن يبقى معمولا به في حق النسوان .

الحجة الثالثة : توافقنا على أنه لو قال للمرأة : دبرك علي حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقا ، وهذا يقتضي كون دبرها حلالا له ، هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب .

أجاب الأولون فقالوا : الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتى وجوه :

الأول : أن الحرث اسم لموضع الحراثة ، ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعا للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة ، ويقتضي هذا الدليل أن يطلق لفظ الحرث على ذات المرأة ، إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله : ( نساؤكم حرث لكم ) لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة ، فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه ، وهذه الصورة مفقودة في قوله : ( فأتوا حرثكم ) فوجب حمل الحرث ههنا على موضع الحراثة على التعيين ، فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتى . [ ص: 63 ]

الوجه الثاني : في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه ; لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين :

أحدهما : قوله : ( قل هو أذى ) .

والثاني : قوله : ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعا بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد ، والأصل أنه لا يجوز .

الوجه الثالث : الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها ، وسبب نزول الآية لا يكون خارجا عن الآية ، فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة ، ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى ، فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه ، وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل :

أما الوجه الأول : فقد بينا أن قوله : ( فأتوا حرثكم ) معناه : فأتوا موضع الحرث .

وأما الثاني : فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله : ( فأتوا حرثكم ) ذلك الموضع المعين لم يكن حمل ( أنى شئتم ) على التخيير في مكان ، وعند هذا يضمر فيه زيادة ، وهي أن يكون المراد من ( أنى شئتم ) فيضمر لفظة : "من" ، لا يقال : ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته ، والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز ، حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول : بل هذا أولى ; لأن الأصل في الأبضاع الحرمة .

وأما الثالث فجوابه : أن قوله : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [المؤمنون : 6] عام ، ودلائلنا خاصة ، والخاص مقدم على العام .

وأما الرابع : فجوابه : أن قوله : دبرك علي حرام ، إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق ; لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة ، فصار ذلك كقوله : يدك طالق ، والله أعلم .

المسألة الرابعة : اختلف المفسرون في تفسير قوله : ( أنى شئتم ) والمشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها ، ومن دبرها في قبلها .

والثاني : أن المعنى : أي وقت شئتم من أوقات الحل : يعني إذا لم تكن أجنبية ، أو محرمة ، أو صائمة ، أو حائضا .

والثالث : أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة ، أو مضطجعة ، بعد أن يكون في الفرج .

الرابع : قال ابن عباس : المعنى إن شاء عزل ، وإن شاء لم يعزل ، وهو منقول عن سعيد بن المسيب .

الخامس : متى شئتم من ليل أو نهار .

فإن قيل : فما المختار من هذه الأقاويل ؟

قلنا : قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون : من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم ، فكان الأولى حمل اللفظ عليه ، وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب ; لأن ( أنى ) يكون بمعنى ( متى ) ويكون بمعنى ( كيف ) ، وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت ( أنى ) ; لأن حال الجماع لا يختلف بذلك ، فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا .

أما قوله : ( وقدموا لأنفسكم ) فمعناه : افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ، ونظيره أن يقول الرجل لغيره : قدم لنفسك عملا صالحا ، وهو كقوله : ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [البقرة : 197] ونظير لفظ [ ص: 64 ] التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار ، وهو قوله : ( قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار ) [ص : 60] .

فإن قيل : كيف تعلق هذا الكلام بما قبله ؟

قلنا : نقل عن ابن عباس أنه قال : معناه التسمية عند الجماع ، وهو في غاية البعد ، والذي عندي فيه أن قوله : ( نساؤكم حرث لكم ) جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء ، كأنه قيل : هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم ; أي : بسبب أنه يتولد الولد منها ، ثم قال بعده : ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) أي : لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث ، فأتوا حرثكم ، ولا تأتوا غير موضع الحرث ، فكان قوله : ( فأتوا حرثكم ) دليلا على الإذن في ذلك الموضع ، والمنع من غير ذلك الموضع ، فلما اشتملت الآية على الإذن في أحد الموضعين ، والمنع عن الموضع الآخر ، لا جرم قال : ( وقدموا لأنفسكم ) أي : لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة ، بل كونوا في قيد تقديم الطاعة ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : ( واتقوا الله ) ثم أكده ثالثا بقوله : ( واعلموا أنكم ملاقوه ) ، وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى ، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل ، وما بعدها أيضا دال على تحريمه ، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين .

أما قوله تعالى : ( واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ) فاعلم أن الكلام في التقوى قد تقدم ، والكلام في تفسير لقاء الله تعالى قد تقدم في قوله : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) [البقرة : 46] واعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة :

أولها : ( وقدموا لأنفسكم ) والمراد منه فعل الطاعات .

وثانيها : قوله : ( واتقوا الله ) والمراد منه ترك المحظورات .

وثالثها : قوله : ( واعلموا أنكم ملاقوه ) ، وفيه إشارة إلى أني إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب ، فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثا ، وما أحسن هذا الترتيب ، ثم قال : ( وبشر المؤمنين ) والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن ، وهو أن يجعل مع كل وعيد وعدا ، والمعنى : وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة ، فحذف ذكرهما لما أنهما كالمعلوم ، فصار كقوله : ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) [الأحزاب : 47] .

التالي السابق


الخدمات العلمية