صفحة جزء
المسألة العاشرة : في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي : اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح ، فنقول : لا بد قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات .

المقدمة الأولى : لا شك أن ههنا مطلوبا ومهروبا . وكل مطلوب فإما أن يكون مطلوبا لذاته أو لغيره ، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوبا لغيره . وأن يكون كل مهروب مهروبا عنه لغيره ، وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما محالان ، فثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبا لذاته ، وبوجود شيء يكون مهروبا عنه لذاته .

المقدمة الثانية : إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور ، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما ، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن ، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما .

المقدمة الثالثة : إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر ، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء ، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر ، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث ، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع ، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس .

المقدمة الرابعة : القوة الباصرة إذا أدركت موجودا في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي ، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذا أو مؤلما خاليا عنهما ، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله ، وإن حصل العلم بكونه مؤلما ترتب على هذا العلم والاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه ، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلما ولا بكونه لذيذا لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله .

المقدمة الخامسة : إن العلم بكونه لذيذا إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خاليا عن المعارض والمعاوق ، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء ، مثاله إذا رأينا طعاما لذيذا فعلمنا بكونه لذيذا ، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد ، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح ، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان ، ومثال آخر لهذا المعنى : أن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي ، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم أعظم منه ، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالا منها ، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذا أو مؤلما إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض .

[ ص: 78 ] المقدمة السادسة : في بيان أن التقرير الذي بيناه على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيبا ذاتيا لزوميا عقليا ، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات ، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك ، فامتنع صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك وللترك بدلا عن الفعل ، إلا بضميمة تنضم إليها وهي الإرادات ، ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة ، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه ، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان ، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة ، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب ، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان .

إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا : ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار ، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها ، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذا أو مؤلما ، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه ، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أمر لازم لزوما ذاتيا واجبا ، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائما مال طبعه إليه ، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب ، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة ، فلو قدرنا شيطانا من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر ؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل ، وإن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل ، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل ، بل الحق أن نقول : إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام ، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة ، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال .

والجواب : أن كل ما ذكرتموه حق وصدق ، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلا عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره ، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه ، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل ، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر ، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكيا عن إبليس أنه قال : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) [ إبراهيم : 22 ] إلا أنه بقي لقائل أن يقول : فالإنسان إنما أقدم على المعصية بتذكير الشيطان ، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين ، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر يثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه ، ولا بد لذلك الاعتقاد الحادث من سبب ، وما ذاك إلا الله سبحانه وتعالى ، وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى ، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق ، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله : " أعوذ بك منك " والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية