صفحة جزء
المسألة الحادية عشرة : اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في داخل قلبه ودماغه أصواتا خفية وحروفا خفية ، فكأن متكلما يتكلم معه ، ومخاطبا يخاطبه ، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه ، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن [ ص: 79 ] تلك الأشياء ليست حروفا ولا أصواتا ، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال ، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص ، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب ، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها ، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة ، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال ، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورها ، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك ، فهذا قول جمهور الفلاسفة ، ولقائل أن يقول : هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساو للحرف والكلمة في الماهية أو لا ؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات ، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء ، وإن كان الحق هو الثاني - وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات - فحينئذ يعود السؤال وهو : أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات ، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجدانا لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة على الذهن فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة ، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة .

واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا : فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر ، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان ، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك ، وإما أن يقال : خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى .

أما القسم الأول - وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان - فهذا قول باطل ؛ لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادرا على تركه ، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه ، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها ، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره .

وأما القسم الثاني - وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر - فهو ظاهر الفساد ، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث - وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى .

أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا إن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى ، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين ، وأما الذين قالوا إنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى .

واعلم أن الثنوية يقولون : للعالم إلهان أحدهما خير وعسكره الملائكة ، والثاني شرير وعسكره الشياطين ، وهما يتنازعان أبدا كل شيء في هذا العالم ، فلكل واحد منهما تعلق به ، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله ، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان ، واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد ، على ما ثبت فساده بالدلائل ، فهذا منتهى القول في هذا الباب .

التالي السابق


الخدمات العلمية