صفحة جزء
أما قوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) ففيه وجوه :

أحدها : وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر ، واحتج عليه بوجهين :

الأول : أن قوله : ( حافظوا على الصلوات ) أمر بما في الصلاة من الفعل ، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر ، فمعنى الآية : وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه .

والثاني : أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء ، بدليل قوله تعالى : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ) [ الزمر : 9 ] وهو المعني بالقنوت في صلاة الصبح والوتر ، وهو المفهوم من قولهم : قنت علي فلان ؛ لأن المراد به الدعاء عليه .

والقول الثاني : ( قانتين ) أي : مطيعين ، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل ، الدليل عليه وجهان :

الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل قنوت في القرآن فهو الطاعة " .

الثاني : قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ومن يقنت منكن لله ورسوله ) [ النساء : 34 ] وقال في كل النساء : ( فالصالحات قانتات ) [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها ، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها ، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزئ ، وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأسا ، لأنه يقال : كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا ، فكذلك لا يحتاج إلى القليل ، وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل والسلف الصالح ، فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة ، وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال .

القول الثالث : ( قانتين ) ساكتين ، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ، ويسألهم : كم صليتم ؟ كفعل أهل الكتاب ، فنزل الله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

القول الرابع : وهو قول مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع ، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى ، ولا يعبث بشيء من جسده ، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف .

القول الخامس : القنوت هو القيام ، واحتجوا عليه بحديث جابر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : " أي الصلاة أفضل ؟ قال طول القنوت " يريد طول القيام ، وهذا القول عندي ضعيف ، وإلا صار تقدير الآية : وقوموا لله قائمين [ ص: 131 ] اللهم إلا أن يقال : وقوموا لله مديمين لذلك القيام ، فحينئذ يصير القنوت مفسرا بالإدامة لا بالقيام .

القول السادس : وهو اختيار علي بن عيسى : أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له ، وهو في الشريعة صار مختصا بالمداومة على طاعة الله تعالى ، والمواظبة على خدمة الله تعالى ، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون ، ويحتمل أن يكون المراد : وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه . والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية