صفحة جزء
المسألة الثانية : هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته ، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه ، كقوله تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) [ الطلاق : 1 ] .

المسألة الثالثة : دخول لفظة ( إلى ) في قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين ) يحتمل أن يكون لأجل أن ( إلى ) عندهم حرف للانتهاء كقولك : من فلان إلى فلان ، فمن علم بتعليم معلم ، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه ، فحسن من هذا الوجه دخول حرف ( إلى ) فيه ، ونظيره قوله تعالى : ( ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ) [ الفرقان : 45 ] .

أما قوله : ( إلى الذين خرجوا من ديارهم ) ففيه روايات :

أحدها : قال السدي : كانت قرية وقع فيها الطاعون ، وهرب عامة أهلها ، والذين بقوا مات أكثرهم ، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون ، رجع الذين هربوا سالمين ، فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحرص منا ، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ، ولئن وقع الطاعون ثانيا خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا ، فلما خرجوا من ذلك الوادي ، ناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه : أن موتوا ، فهلكوا وبليت أجسامهم ، فمر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهم وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه : أتريد أن أريك كيف أحييهم ؟ فقال : نعم ، فقيل له : ناد : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض ، حتى تمت العظام ، ثم أوحى الله إليه : ناد : يا أيتها العظام ، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما ودما ، فصارت لحما ودما ، ثم قيل : ناد : إن الله يأمرك أن تقومي فقامت ، فلما صاروا أحياء قاموا ، وكانوا يقولون : " سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت " ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم ، وكانت أمارات أنهم ماتوا ظاهرة في وجوههم ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم .

الرواية الثانية : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال ، فخافوا القتال وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء ، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء ، فأماتهم الله تعالى بأسرهم ، وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا ، وبلغ بني إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم ، فعجزوا من كثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر ، فأحياهم الله بعد الثمانية ، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم ، واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى عقيب هذه الآية ( وقاتلوا في سبيل الله ) [ البقرة : 190 ] .

والرواية الثالثة : أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا ، فأرسل الله عليهم الموت ، فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ، ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك ، وأنهم لا يخرجون عن قبضتك ، فأرسل الله عليهم الموت ، ثم إنه عليه السلام ضاق صدره بسبب موتهم ، فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى .

أما قوله تعالى : ( وهم ألوف ) ففيه قولان :

الأول : أن المراد منه بيان العدد ، واختلفوا في مبلغ [ ص: 139 ] عددهم ، قال الواحدي رحمه الله : ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفا ، والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها : ألوف .

والقول الثاني : أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد ، وجلوس وجالس ، والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب ، قال القاضي : الوجه الأول أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم ، لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتبارا عظيما ، فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة ، كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف .

ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفا لحياته ، محبا لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) [ البقرة : 96 ] ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة وألفهم بها ، أماتهم الله تعالى وأهلكهم ، ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد .

أما قوله : ( حذر الموت ) فهو منصوب ؛ لأنه مفعول له ، أي لحذر الموت ، ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت ، فلما خص هذا الموضع بالذكر ، علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر ، إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة .

أما قوله تعالى : ( فقال لهم الله موتوا ) ففي تفسير ( قال الله ) وجهان :

الأول : أنه جار مجرى قوله : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) [ النحل : 40 ] وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول ، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير ، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة ، ويدل عليه قوله : ( ثم أحياهم ) فإذا صح الإحياء بالقول ، فكذا القول في الإماتة .

والقول الثاني : أنه تعالى أمر الرسول أن يقول لهم : موتوا ، وأن يقول عند الإحياء ما رويناه عن السدي ، ويحتمل أيضا ما رويناه من أن الملك قال ذلك ، والقول الأول أقرب إلى التحقيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية