صفحة جزء
المسألة الثانية : اعلم أن تفسير لفظة " الله " قد تقدم في أول الكتاب ، وتفسير قوله : ( لا إله إلا هو ) قد تقدم في قوله : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ) [البقرة : 163] بقي ههنا أن نتكلم في تفسير قوله : ( الحي القيوم ) وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول : أعظم أسماء الله ( الحي القيوم ) وما روينا أنه صلوات الله وسلامه عليه ما كان يزيد على ذكره في السجود يوم بدر يدل على عظمة هذا الاسم ، والبراهين العقلية دالة على صحته . وتقريره -ومن الله التوفيق- : أنه لا شك في وجود الموجودات فهي إما أن تكون بأسرها ممكنة ، وإما أن تكون بأسرها واجبة ، وإما أن تكون بعضها ممكنة وبعضها واجبة لا جائز أن تكون بأسرها ممكنة ؛ لأن كل مجموع فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزاء هذا المجموع ممكن ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فهذا المجموع ممكن بذاته، وكل واحد من أجزائه ممكن فإنه لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح مغاير له ، فهذا المجموع مفتقر بحسب كونه مجموعا وبحسب كل واحد من أجزائه إلى مرجح مغاير له ، وكل ما كان مغايرا لكل الممكنات لم يكن ممكنا فقد وجد موجود ليس بممكن ، فبطل القول بأن كل موجود ممكن .

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : الموجودات بأسرها واجبة فهذا أيضا باطل ؛ لأنه لو حصل وجودان كل واحد منهما واجب لذاته لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ومتغايرين بالنفي ، وما به المشاركة مغاير لما به الممايزة ، فيكون كل واحد منهما مركبا في الوجوب الذي به المشاركة ، ومن الغير الذي به الممايزة ، وكل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من جزئه وجزء غيره ، وكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فلو كان واجب الوجود أكثر من واحد لما كان شيء منها واجب الوجود ، وذلك محال ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه حصل في مجموع الموجودات موجود واحد واجب الوجود لذاته ، وأن كل ما عداه فهو ممكن لذاته موجود بإيجاد ذلك الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ، ولما بطل هذان فالواجب لذاته موجود لذاته وبذاته ، ومستغن في وجوده عن كل ما سواه ، وأما كل ما سواه فمفتقر في وجوده وماهيته إلى إيجاد الواجب لذاته ، فالواجب لذاته قائم بذاته ، وسبب لتقوم كل ما سواه في ماهيته وفي وجوده ، فهو القيوم الحي بالنسبة إلى كل الموجودات ، فالقيوم هو المتقوم بذاته ، المقوم لكل ما عداه في ماهيته ووجوده ، ولما كان واجب الوجود لذاته كان هو القيوم الحق بالنسبة إلى الكل ، ثم إنه لما كان المؤثر في الغير إما أن يكون مؤثرا على سبيل العلية والإيجاب ، وإما أن يكون مؤثرا على سبيل الفعل والاختيار ، لا جرم أزال وهم كونه مؤثرا بالعلية والإيجاب بقوله : ( الحي القيوم ) فإن الحي هو الدراك [ ص: 5 ] الفعال ، فبقوله : ( الحي ) دل على كونه عالما قادرا ، وبقوله : ( القيوم ) دل على كونه قائما بذاته ومقوما لكل ما عداه ، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد .

فأولها : أن واجب الوجود واحد بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء . وبرهانه أن كل مركب فإنه مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من أجزائه ، وجزؤه غيره ، وكل مركب فهو متقوم بغيره ، والمتقوم بغيره لا يكون متقوما بذاته ، فلا يكون قيوما ، وقد بينا بالبرهان أنه قيوم ، وإذا ثبت أنه تعالى في ذاته واحد ، فهذا الأصل له لازمان : أحدهما : أن واجب الوجود واحد ، بمعنى أنه ليس في الوجود شيئان كل واحد منهما واجب لذاته ، إذ لو فرض ذلك لاشتركا في الوجوب وتباينا في التعين ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيلزم كون كل واحد منهما في ذاته مركبا من جزأين ، وقد بينا بيان أنه محال .

اللازم الثاني : أنه لما امتنع في حقيقته أن تكون مركبة من جزأين امتنع كونه متحيزا ؛ لأن كل متحيز فهو منقسم ، وقد ثبت أن التركيب عليه ممتنع ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز امتنع كونه في الجهة ؛ لأنه لا معنى للمتحيز إلا ما يمكن أن يشار إليه إشارة حسية ، وإذا ثبت أنه ليس بمتحيز وليس في الجهة ، امتنع أن يكون له أعضاء وحركة وسكون .

وثانيها : أنه لما كان قيوما كان قائما بذاته ، وكونه قائما بذاته يستلزم أمورا :

اللازم الأول : أن لا يكون عرضا في موضوع ، ولا صورة في مادة ، ولا حالا في محل أصلا ؛ لأن الحال مفتقر إلى المحل ، والمفتقر إلى الغير لا يكون قيوما بذاته .

واللازم الثاني : قال بعض العلماء : لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، فإذا كان قيوما بمعنى كونه قائما بنفسه لا بغيره كانت حقيقته حاضرة عند ذاته ، وإذا كان لا معنى للعلم إلا هذا الحضور ، وجب أن تكون حقيقته معلومة لذاته فإذن ذاته معلومة لذاته ، وكل ما عداه فإنه إنما يحصل بتأثيره ، ولأنا بينا أنه قيوم بمعنى كونه مقوما لغيره ، وذلك التأثير إن كان بالاختيار فالفاعل المختار لا بد وأن يكون له شعور بفعله ، وإن كان بالإيجاب لزم أيضا كونه عالما بكل ما سواه ؛ لأن ذاته موجبة لكل ما سواه ، وقد دللنا على أنه يلزم من كونه قائما بالنفس لذاته كونه عالما بذاته ، والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، فعلى التقديرات كلها يلزم من كونه قيوما كونه عالما بجميع المعلومات .

وثالثها : لما كان قيوما لكل ما سواه كان كل ما سواه محدثا ؛ لأن تأثيره في تقويم ذلك الغير يمتنع أن يكون حال بقاء ذلك الغير ؛ لأن تحصيل الحاصل محال ، فهو إما حال عدمه وإما حال حدوثه ، وعلى التقديرين وجب أن يكون الكل محدثا .

ورابعها : أنه لما كان قيوما لكل الممكنات استندت كل الممكنات إليه إما بواسطة أو بغير واسطة ، وعلى التقديرين كان القول بالقضاء والقدر حقا ، وهذا مما قد فصلناه وأوضحناه في هذا الكتاب في آيات كثيرة ، فأنت إن ساعدك التوفيق وتأملت في هذه المعاقد التي ذكرناها علمت أنه لا سبيل إلى الإحاطة بشيء من المسائل المتعلقة بالعلم الإلهي إلا بواسطة كونه تعالى حيا قيوما ، فلا جرم لا يبعد أن يكون الاسم الأعظم هو هذا ، وأما سائر الآيات الإلهية ، كقوله : ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ) [البقرة : 163] وقوله ( شهد الله أنه ) [ ص: 6 ] ( لا إله إلا هو ) [آل عمران : 18] ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وأما قوله ( قل هو الله أحد ) ففيه بيان التوحيد بمعنى نفي الضد والند ، وبمعنى أن حقيقته غير مركبة من الأجزاء ، وأما قوله ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ) [الأعراف : 54] ففيه بيان صفة الربوبية وليس فيه بيان وحدة الحقيقة ، أما قوله ( الحي القيوم ) فإنه يدل على الكل ؛ لأن كونه قيوما يقتضي أن يكون قائما بذاته ، وأن يكون مقوما لغيره ، وكونه قائما بذاته يقتضي الوحدة بمعنى نفي الكثرة في حقيقته ، وذلك يقتضي الوحدة بمعنى نفي الضد والند ، ويقتضي نفي التحيز ، وبواسطته يقتضي نفي الجهة . وأيضا كونه قيوما بمعنى كونه مقوما لغيره يقتضي حدوث كل ما سواه جسما كان أو روحا عقلا كان أو نفسا ، ويقتضي استناد الكل إليه وانتهاء جملة الأسباب والمسببات إليه ، وذلك يوجب القول بالقضاء والقدر ، فظهر أن هذين اللفظين كالمحيطين بجميع مباحث العلم الإلهي ، فلا جرم بلغت هذه الآية في الشرف إلى المقصد الأقصى ، واستوجب أن يكون هو الاسم الأعظم من أسماء الله تعالى .

ثم إنه تعالى لما بين أنه حي قيوم أكد ذلك بقوله ( لا تأخذه سنة ولا نوم له ) والمعنى : أنه لا يغفل عن تدبير الخلق ، لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة لاختل أمر الطفل ، فهو سبحانه قيم جميع المحدثات ، وقيوم الممكنات ، فلا يمكن أن يغفل عن تدبيرهم ، فقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) كالتأكيد لبيان كونه تعالى قائما ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم ، ثم إنه تعالى لما بين كونه قيوما بمعنى كونه قائما بذاته ، مقوما لغيره ، رتب عليه حكما وهو قوله : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) لأنه لما كان كل ما سواه إنما تقومت ماهيته ، وإنما يحصل وجوده بتقويمه وتكوينه وتخليقه ، لزم أن يكون كل ما سواه ملكا له وملكا له ، وهو المراد من قوله : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) ثم لما ثبت أنه هو الملك والمالك لكل ما سواه ، ثبت أن حكمه في الكل جار ليس لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ثم لما بين أنه يلزم من كونه مالكا للكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه ، بين أيضا أنه يلزم من كونه عالما بالكل وكون غيره غير عالم بالكل ، أن لا يكون لغيره في ملكه تصرف بوجه من الوجوه إلا بإذنه ، وهو قوله : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) وهو إشارة إلى كونه سبحانه عالما بالكل ، ثم قال : ( ولا يحيطون بشيء من علمه ) وهو إشارة إلى كون غيره غير عالم بجميع المعلومات ، ثم إنه لما بين كمال ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرض ، بين أن ملكه فيما وراء السماوات والأرض أعظم وأجل ، وأن ذلك مما لا تصل إليه أوهام المتوهمين وينقطع دون الارتقاء إلى أدنى درجة من درجاتها تخيلات المتخيلين ، فقال : ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) ثم بين أن نفاذ حكمه وملكه في الكل على نعت واحد ، وصورة واحدة ، فقال : ( ولا يئوده حفظهما ) ثم لما بين كونه قيوما بمعنى كونه مقوما للمحدثات والممكنات والمخلوقات ، بين كونه قيوما بمعنى قائما بنفسه وذاته ، منزها عن الاحتياج إلى غيره في أمر من الأمور ، فتعالى عن أن يكون متحيزا حتى يحتاج إلى مكان ، أو متغيرا حتى يحتاج إلى زمان ، فقال : ( وهو العلي العظيم ) فالمراد منه العلو والعظمة ، بمعنى أنه لا يحتاج إلى غيره في أمر من الأمور ، ولا ينسب إلى غيره في صفة من الصفات ولا في نعت من النعوت ، فقال : ( وهو العلي العظيم ) إشارة إلى ما بدأ به في الآية من كونه قيوما بمعنى كونه قائما بذاته مقوما لغيره . ومن أحاط عقله بما ذكرنا علم أنه ليس عند العقول البشرية من الأمور الإلهية كلام أكمل ولا برهان أوضح مما اشتملت عليه هذه الآيات .

التالي السابق


الخدمات العلمية