صفحة جزء
( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )

قوله تعالى : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير .

اعلم أنه تعالى ذكر ههنا قصصا ثلاثة : الأولى منها في بيان إثبات العلم بالصانع ، والثانية والثالثة في إثبات الحشر والنشر والبعث ، والقصة الأولى مناظرة إبراهيم صلى الله عليه وسلم مع ملك زمانه وهي هذه الآية التي نحن في تفسيرها ، فنقول :

أما قوله تعالى : ( ألم تر ) فهي كلمة يوقف بها المخاطب على تعجب منها ، ولفظها لفظ الاستفهام [ ص: 20 ] وهي كما يقال : ألم تر إلى فلان كيف يصنع ، معناه : هل رأيت كفلان في صنعه كذا .

أما قوله : ( إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ) فقال مجاهد : هو نمروذ بن كنعان ، وهو أول من تجبر وادعى الربوبية ، واختلفوا في وقت هذه المحاجة قيل : إنه عند كسر الأصنام قبل الإلقاء في النار عن مقاتل ، وقيل : بعد إلقائه في النار . والمحاجة المغالبة ، يقال : حاججته فحججته ، أي : غالبته فغلبته ، والضمير في قوله : ( في ربه ) يحتمل أن يعود إلى إبراهيم ، ويحتمل أن يرجع إلى الطاعن ، والأول أظهر ، كما قال : ( وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله ) [الأنعام : 80] والمعنى وحاجه قومه في ربه .

أما قوله : ( أن آتاه الله الملك ) فاعلم أن في الآية قولين :

الأول : أن الهاء في آتاه عائد إلى إبراهيم ، يعني أن الله تعالى آتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم الملك ، واحتجوا على هذا القول بوجوه :

الأول : قوله تعالى : ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [النساء : 54] أي : سلطانا بالنبوة ، والقيام بدين الله تعالى .

والثاني : أنه تعالى لا يجوز أن يؤتي الملك الكفار ، ويدعي الربوبية لنفسه .

والثالث : أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين واجب ، وإبراهيم أقرب المذكورين إلى هذا الضمير ، فوجب أن يكون هذا الضمير عائدا إليه .

والقول الثاني ، وهو قول جمهور المفسرين : أن الضمير عائد إلى ذلك الإنسان الذي حاج إبراهيم .

وأجابوا عن الحجة الأولى بأن هذه الآية دالة على حصول الملك لآل إبراهيم ، وليس فيها دلالة على حصول الملك لإبراهيم عليه السلام .

وعن الحجة الثانية بأن المراد من الملك ههنا التمكن والقدرة والبسطة في الدنيا ، والحس يدل على أنه تعالى قد يعطي الكافر هذا المعنى ، وأيضا فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى أعطاه الملك حال ما كان مؤمنا ، ثم إنه بعد ذلك كفر بالله تعالى ؟ .

وعن الحجة الثالثة بأن إبراهيم عليه السلام وإن كان أقرب المذكورين إلا أن الروايات الكثيرة واردة بأن الذي حاج إبراهيم كان هو الملك ، فعود الضمير إليه أولى من هذه الجهة . ثم احتج القائلون بهذا القول على مذهبهم من وجوه :

الأول : أن قوله تعالى : ( أن آتاه الله الملك ) يحتمل تأويلات ثلاثة ، وكل واحد منها إنما يصح إذا قلنا : الضمير عائد إلى الملك لا إلى إبراهيم ، وأحد تلك التأويلات أن يكون المعنى حاج إبراهيم في ربه لأجل أن آتاه الله الملك ، على معنى أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو فحاج لذلك ، ومعلوم أن هذا إنما يليق بالملك العاتي ، والتأويل الثاني أن يكون المعنى أنه جعل محاجته في ربه شكرا على أن آتاه ربه الملك ، كما يقال : عاداني فلان لأني أحسنت إليه ، يريد أنه عكس ما يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ونظيره قوله تعالى : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) [الواقعة : 82] وهذا التأويل أيضا لا يليق بالنبي فإنه يجب عليه إظهار المحاجة قبل حصول الملك وبعده ، أما الملك العاتي فإنه لا يليق به إظهار هذا العتو الشديد إلا بعد أن يحصل الملك العظيم له ، فثبت أنه لا يستقيم لقوله : ( أن آتاه الله الملك ) معنى وتأويل إلا إذا حملناه على الملك العاتي .

الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية بيان كمال حال إبراهيم صلى الله عليه وسلم في إظهار الدعوة إلى الدين الحق ، ومتى كان الكافر سلطانا مهيبا ، وإبراهيم ما كان ملكا ، كان هذا المعنى أتم مما إذا كان إبراهيم ملكا ، ولما كان الكافر ملكا ، فوجب المصير إلى ما ذكرنا .

[ ص: 21 ] الحجة الثالثة : ما ذكره أبو بكر الأصم ، وهو أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لو كان هو الملك لما قدر الكافر أن يقتل أحد الرجلين ويستبقي الآخر ، بل كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم يمنعه منه أشد منع ، بل كان يجب أن يكون كالملجأ إلى أن لا يفعل ذلك ، قال القاضي : هذا الاستدلال ضعيف ، لأنه من المحتمل أن يقال : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان ملكا وسلطانا في الدين والتمكن من إظهار المعجزات ، وذلك الكافر كان ملكا مسلطا قادرا على الظلم ؛ فلهذا السبب أمكنه قتل أحد الرجلين ، وأيضا فيجوز أن يقال : إنما قتل أحد الرجلين قودا ، وكان الاختيار إليه ، واستبقى الآخر ، إما لأنه لا قتل عليه أو بذل الدية واستبقاه .

وأيضا قوله : ( أنا أحيي ) خبر ووعد ، ولا دليل في القرآن على أنه فعله ، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة .

التالي السابق


الخدمات العلمية