صفحة جزء
القصة الثانية :

والمقصود منها إثبات المعاد ، قوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ) .

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله : ( أو كالذي ) وذكروا فيه ثلاثة أوجه :

الأول : أن يكون قوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) في معنى " ألم تر كالذي حاج إبراهيم " وتكون هذه الآية معطوفة عليه ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم ، أو كالذي مر على قرية ، فيكون هذا عطفا على المعنى ، وهو قول الكسائي والفراء وأبي علي الفارسي وأكثر النحويين ، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : ( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله ) [المؤمنون : 84 - 85] ثم قال : ( من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله ) [المؤمنون : 86 ، 87] فهذا عطف على المعنى ؛ لأن معناه : لمن السماوات ؟ فقيل : لله ، قال الشاعر :


معاوي إننا بشر فأسجح فلسنا بالجبال ولا الحديدا



فحمل على المعنى وترك اللفظ .

والقول الثاني ، وهو اختيار الأخفش : أن الكاف زائدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج والذي مر على قرية .

والقول الثالث ، وهو اختيار المبرد : أنا نضمر في الآية زيادة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، وألم تر إلى من كان كالذي مر على قرية .

[ ص: 26 ] المسألة الثانية : اختلفوا في الذي مر بالقرية ، فقال قوم : كان رجلا كافرا شاكا في البعث ، وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة ، وقال الباقون : إنه كان مسلما ، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس : هو أرمياء ، ثم من هؤلاء من قال : إن أرمياء هو الخضر عليه السلام ، وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام ، وهو قول محمد بن إسحاق ، وقال وهب بن منبه : إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة .

حجة من قال : إن هذا المار كان كافرا وجوه :

الأول : أن الله حكى عنه أنه قال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر .

فإن قيل : يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ .

قلنا : لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك ، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، بل كان بسبب اطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورا ، وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل ، فيقول : متى يقلبه الله ذهبا ، أو ياقوتا ، لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى ، بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات ، فكذا ههنا .

الوجه الثاني : قالوا : إنه تعالى قال في حقه : ( فلما تبين له ) وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلا له ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلا له قبل ذلك ، فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلا فهو ممنوع .

الوجه الثالث : أنه قال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) وهذا يدل على أن هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وأنه كان خاليا عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق ، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلا قبل ذلك .

الوجه الرابع لهم : أن هذا المار كان كافرا لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد . وهو ضعيف أيضا ، لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم ، فوجب أن يكون نبيا من جنس إبراهيم .

وحجة من قال : إنه كان مؤمنا وكان نبيا وجوه :

الأول : أن قوله : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) يدل على أنه كان عالما بالله ، وعلى أنه كان عالما بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ؛ لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة ، فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة .

الحجة الثانية : أن قوله : ( كم لبثت ) لا بد له من قائل ، والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير : قال الله تعالى : ( كم لبثت ) فقال ذلك الإنسان : ( لبثت يوما أو بعض يوم ) فقال الله تعالى : ( قال بل لبثت مائة عام ) ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله : ( ولنجعلك آية للناس ) ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ، ثم قال : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما ) ولا شك أن قائل هذا [ ص: 27 ] القول هو الله تعالى ، فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر .

فإن قيل : لعله تعالى بعث إليه رسولا أو ملكا حتى قال له هذا القول عن الله تعالى .

قلنا : ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى ، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز .

والحجة الثالثة : أن إعادته حيا وإبقاء الطعام والشراب على حالهما ، وإعادة الحمار حيا بعدما صار رميما مع كونه مشاهدا لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم ، وذلك لا يليق بحال الكافر له .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراما لإنسان آخر كان نبيا في ذلك الزمان ؟ .

قلنا : لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي ، وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلا ، فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالا لما هو الغرض الأصلي من الكلام وإنه لا يجوز .

فإن قيل : لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال : إنه ادعى النبوة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما ، والأول باطل ؛ لأن إرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة ، وذلك لا يتم بعد الإماتة ، وإن ادعى النبوة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى ، وذلك غير جائز .

قلنا : إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولا جائز عندنا ، وعلى هذا الطريق زال السؤال .

الحجة الرابعة : أنه تعالى قال في حق هذا الشخص : ( ولنجعلك آية للناس ) وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى : ( وجعلناها وابنها آية للعالمين ) [الأنبياء : 91] فكان هذا وعدا من الله تعالى بأنه يجعله نبيا ، وأيضا فهذا الكلام [ إن ] لم يدل على النبوة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شابا كاملا إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا ، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شابا ، صح أن يقال لأجل ذلك : إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ، ونبوة نبي ذلك الزمان .

والجواب من وجهين :

الأول : أن قوله : ( ولنجعلك آية ) إخبار عن أنه تعالى يجعله آية ، وهذا الإخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله ، وتكلم معه ، والمجعول لا يجعل ثانيا ، فوجب حمل قوله : ( ولنجعلك آية للناس ) على أمر زائد عن هذا الإحياء ، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلا .

والثاني : أن وجه التمسك أن قوله : ( ولنجعلك آية للناس ) يدل على التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى .

[ ص: 28 ] الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرين ، ومنهم عزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى بابل ، فدخل عزير يوما تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدا فعجب من ذلك وقال : ( أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) لا على سبيل الشك في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ونام ، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عن موته أيضا الإنس والسباع والطير ، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء : يا عزير ( كم لبثت ) بعد الموت ؟ فقال : ( يوما ) فأبصر من الشمس بقية فقال : ( أو بعض يوم ) فقال الله تعالى : ( بل لبثت مائة عام ) من التين والعنب ( وشرابك ) من العصير لم يتغير طعمهما ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال : ( وانظر إلى حمارك ) فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتا : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا ، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ، ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور عن الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجدا ، وقال : ( أعلم أن الله على كل شيء قدير ) ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل ، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت ، وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله . وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس ، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبيا .

المسألة الثالثة : اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع : إيلياء وهي بيت المقدس ، وقال ابن زيد : هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت .

أما قوله تعالى : ( وهي خاوية على عروشها ) قال الأصمعي : خوى البيت فهو يخوي خواء ممدودا إذا ما خلا من أهله ، والخوا : خلو البطن من الطعام ، وفي الحديث : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى " أي : خلى ما بين عضديه وجنبيه ، وبطنه وفخذيه . وخوى الفرس ما بين قوائمه . ثم يقال للبيت إذا انهدم : خوى لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك : خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر . والعرش سقف البيت ، والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب يقال : عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بنى وسقف بخشب ، فقوله : ( وهي خاوية على عروشها ) أي : منهدمة ساقطة خراب ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما . وفيه وجوه :

أحدها : أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها ، يدل عليه قوله تعالى : ( أعجاز نخل خاوية ) [الحاقة : 7] وموضع آخر ( أعجاز نخل منقعر ) [القمر : 20] وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به .

والثاني : قوله تعالى : ( خاوية على عروشها ) أي : خاوية عن عروشها ، جعل " على " بمعنى " عن " كقوله : ( إذا اكتالوا على الناس ) [المطففين : 2] أي : عنهم .

والثالث : أن المراد أن القرية خاوية [ ص: 29 ] مع كون أشجارها معروشة ، فكان التعجب من ذلك أكثر ؛ لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة ، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر .

أما قوله تعالى : ( قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ) فقد ذكرنا أن من قال : المار كان كافرا حمله على الشك في قدرة الله تعالى ، ومن قال : كان نبيا حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد ، كما قال إبراهيم عليه السلام : ( أرني كيف تحي الموتى ) [البقرة : 260] وقوله ( أنى ) أي : من أين كقوله : ( أنى لك هذا ) [ آل عمران : 37] ، والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها ، أي : متى يفعل الله تعالى ذلك ؟ على معنى أنه لا يفعله ، فأحب الله أن يريه في نفسه ، وفي إحياء القرية آية ( فأماته الله مائة عام ) وقد ذكرنا القصة .

فإن قيل : ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام ، مع أن الاستدلال بالإحياء بعد يوم أو بعد بعض يوم حاصل ؟ .

قلنا : لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة ، وأيضا فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره أعجب .

أما قوله تعالى : ( ثم بعثه ) فالمعنى : ثم أحياه ، ويوم القيامة يسمى يوم البعث ؛ لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، وإنما قال : ( ثم بعثه ) ولم يقل : ثم أحياه لأن قوله : ( ثم بعثه ) يدل على أنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال : ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد .

التالي السابق


الخدمات العلمية