1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة البقرة
  4. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد )

قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد ) .

اعلم أنه [تعالى] رغب في الإنفاق ، ثم بين أن الإنفاق على قسمين : منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك .

ثم إنه تعالى شرح ما يتعلق بكل واحد من هذين القسمين ، وضرب لكل واحد منهما مثلا يكشف عن المعنى ويوضح المقصود منه على أبلغ الوجوه .

[ ص: 54 ] ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف ينبغي أن يكون فقال : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) واختلفوا في أن قوله : ( أنفقوا ) المراد منه ماذا ؟ فقال الحسن : المراد منه الزكاة المفروضة ، وقال قوم : المراد منه التطوع ، وقال ثالث : إنه يتناول الفرض والنفل .

حجة من قال المراد منه الزكاة المفروضة : أن قوله : ( أنفقوا ) أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة .

حجة من قال المراد صدقة التطوع : ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والحسن ومجاهد : أنهم كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورديء أموالهم فأنزل الله هذه الآية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئس ما صنع صاحب هذا " فأنزل الله تعالى هذه الآية .

حجة من قال الفرض والنفل داخلان في هذه الآية : أن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز ، وهذا المفهوم قدر مشترك بين الفرض والنفل ، فوجب أن يكونا داخلين تحت الأمر .

إذا عرفت هذا فنقول : أما على القول الأول وهو أنه للوجوب فيتفرع عليه مسائل :

المسألة الأولى : ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان ، فيدخل فيه زكاة التجارة ، وزكاة الذهب والفضة ، وزكاة النعم ؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب ، ويدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، على ما هو قول أبي حنيفة رحمه الله ، واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدا ، إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس في الخضراوات صدقة " وأيضا مذهب أبي حنيفة أن إخراج الزكاة من كل ما أنبتته الأرض واجب قليلا كان أو كثيرا ، وظاهر الآية يدل على قوله إلا أن مخالفيه خصصوا هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " .

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بالطيب في هذه الآية على قولين :

القول الأول : أنه الجيد من المال دون الرديء ، فأطلق لفظ الطيب على الجيد على سبيل الاستعارة ، وعلى هذا التفسير فالمراد من الخبيث المذكور في هذه الآية الرديء .

والقول الثاني ، وهو قول ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال ، والخبيث هو الحرام .

حجة الأول وجوه :

الحجة الأولى : أنا ذكرنا في سبب النزول أنهم يتصدقون برديء أموالهم فنزلت الآية ، وذلك يدل على أن المراد من الطيب الجيد .

الحجة الثانية : أن المحرم لا يجوز أخذه لا بإغماض ولا بغير إغماض ، والآية تدل على أن الخبيث يجوز أخذه بالإغماض . قال القفال - رحمه الله - : ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد من الإغماض المسامحة وترك الاستقصاء ، فيكون المعنى : ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ، ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال ، أمن حلاله أو من حرامه .

الحجة الثالثة : أن هذا القول متأيد بقوله تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [آل عمران : 92] وذلك يدل على أن المراد بالطيبات الأشياء النفيسة التي يستطاب ملكها ، لا الأشياء الخسيسة التي يجب [ ص: 55 ] على كل أحد دفعها عن نفسه وإخراجها عن بيته .

واحتج القاضي للقول الثاني فقال : أجمعنا على أن المراد من الطيب في هذه الآية إما الجيد وإما الحلال ، فإذا بطل الأول تعين الثاني ، وإنما قلنا إنه بطل الأول ؛ لأن المراد لو كان هو الجيد لكان ذلك أمرا بإنفاق مطلق الجيد سواء كان حراما أو حلالا ، وذلك غير جائز ، والتزام التخصيص خلاف الأصل ، فثبت أن المراد ليس هو الجيد بل الحلال . ويمكن أن يذكر فيه قول ثالث وهو أن المراد من الطيب ههنا ما يكون طيبا من كل الوجوه ، فيكون طيبا بمعنى الحلال ، ويكون طيبا بمعنى الجودة ، وليس لقائل أن يقول : حمل اللفظ المشترك على مفهوميه لا يجوز ؛ لأنا نقول : الحلال إنما سمي طيبا لأنه يستطيبه العقل والدين ، والجيد إنما يسمى طيبا لأنه يستطيبه الميل والشهوة ، فمعنى الاستطابة مفهوم واحد مشترك بين القسمين ، فكان اللفظ محمولا عليه إذا أثبت أن المراد منه الجيد الحلال ؛ فنقول : الأموال الزكاتية إما أن تكون كلها شريفة أو كلها خسيسة أو تكون متوسطة أو تكون مختلطة ، فإن كان الكل شريفا كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك ، وإن كان الكل خسيسا كانت الزكاة أيضا من ذلك الخسيس ، ولا يكون خلافا للآية ؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيسا من ذلك المال بل إن كان في المال جيد ورديء ، فحينئذ يقال للإنسان : لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، وأما إن كان المال مختلطا فالواجب هو الوسط ، قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم ، وإياك وكرائم أموالهم " هذا كله إذا قلنا : المراد من قوله : ( أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) الزكاة الواجبة ، أما على القول الثاني وهو أن يكون المراد منه صدقة التطوع ، أو قلنا : المراد منه الإنفاق الواجب والتطوع ، فنقول : إن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه ، كمن تقرب إلى السلطان الكبير بتحفة وهدية ، فإنه لا بد وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه وأشرفها ، فكذا ههنا .

بقي في الآية سؤال واحد ، وهو أن يقال ما الفائدة في كلمة " من " في قوله : ( ومما أخرجنا لكم من الأرض ) .

وجوابه : تقدير الآية : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، وأنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض ، إلا أن ذكر الطيبات لما حصل مرة واحدة حذف في المرة الثانية لدلالة المرة الأولى عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية