صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية وجوه :

الأول - وهو الأصح - أنه نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها .

والثاني : أن المراد تحمل الشهادة على الإطلاق ، وهو قول قتادة واختيار القفال ، قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، كذلك أمر الشاهد أن لا يأبى عن تحمل الشهادة ؛ لأن كل واحد منهما يتعلق بالآخر ، وفي عدمهما ضياع الحقوق .

الثالث : أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره . الرابع : وهو قول الزجاج : أن المراد بمجموع الأمرين التحمل أولا ، والأداء ثانيا .

واحتج القائلون بالقول الأول من وجوه :

الأول : أن قوله : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) يقتضي تقديم كونهم شهداء ، وذلك لا يصح إلا عند أداء الشهادة ، فأما وقت التحمل فإنه لم يتقدم ذلك الوقت كونهم شهداء .

فإن قيل : يشكل هذا بقوله ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) وكذلك سماه كاتبا قبل أن يكتب .

قلنا : الدليل الذي ذكرناه صار متروكا بالضرورة في هذه الآية فلا يجوز أن نتركه لعلة ضرورة في تلك الآية .

والثاني : أن ظاهر قوله : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) النهي عن الامتناع ، والأمر بالفعل ، وذلك للوجوب في حق الكل ، ومعلوم أن التحمل غير واجب على الكل ، فلم يجز حمله عليه ، وأما الأداء بعد التحمل فإنه واجب على الكل ، ومتأكد بقوله تعالى : ( ولا تكتموا الشهادة ) [ البقرة : 283 ] فكان هذا أولى .

الثالث : أن الأمر بالإشهاد يفيد أمر الشاهد بالتحمل من بعض الوجوه ، فصار الأمر بتحمل الشهادة داخلا في قوله : ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) فكان صرف قوله : ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) إلى الأمر بالأداء حملا له على فائدة جديدة ، فكان ذلك أولى ، فقد ظهر بما ذكرنا دلالة الآية على أنه يجب على الشاهد أن لا يمتنع من إقامة الشهادة إذا دعي إليها .

[ ص: 101 ] واعلم أن الشاهد إما أن يكون متعينا ، وإما أن يكون فيهم كثرة ، فإن كان متعينا وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة صار ذلك فرضا على الكفاية .

المسألة الثانية : قد شرحنا دلالة هذه الآية على أن العبد لا يجوز أن يكون شاهدا فلا نعيده .

الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : يجوز القضاء بالشاهد واليمين ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجوز ، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال : إن الله تعالى أوجب عند عدم شهادة رجلين شهادة الرجل والمرأتين على التعيين ، فلو جوزنا الاكتفاء بالشاهد واليمين لبطل ذلك التعيين ، وحجة الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين ، وتمام الكلام فيه مذكور في خلافيات الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية