صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) وأكثر المفسرين قالوا : المراد أن الكتابة وإن رفعت عنهم في التجارة إلا أن الإشهاد ما رفع عنهم ؛ لأن الإشهاد بلا كتابة أخف مؤنة ، ولأن الحاجة إذا وقعت إليها لا يخاف فيها النسيان .

واعلم أنه لا شك أن المقصود من هذا الأمر الإرشاد إلى طريق الاحتياط .

ثم قال تعالى : ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) واعلم أنه يحتمل أن يكون هذا نهيا للكاتب والشهيد عن إضرار من له الحق ، أما الكاتب فبأن يزيد أو ينقص أو يترك الاحتياط ، وأما الشهيد فبأن لا يشهد أو يشهد بحيث لا يحصل معه نفع ، ويحتمل أن يكون نهيا لصاحب الحق عن إضرار الكاتب والشهيد ، بأن يضرهما أو يمنعهما عن مهماتهما , والأول قول أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ، والثاني قول ابن مسعود وعطاء ومجاهد .

واعلم أن كلا الوجهين جائز في اللغة ، وإنما احتمل الوجهين بسبب الإدغام الواقع في " لا يضار " أحدهما : أن يكون أصله لا يضارر ، بكسر الراء الأولى ، فيكون الكاتب والشهيد هما الفاعلان للضرار .

والثاني : أن يكون أصله لا يضارر بفتح الراء الأولى ، فيكون هما المفعول بهما الضرار , ونظير هذه الآية التي تقدمت في هذه السورة ، وهو قوله : ( لا تضار والدة بولدها ) وقد أحكمنا بيان هذا اللفظ هناك ، والدليل على ما ذكرنا من احتمال الوجهين قراءة عمر رضي الله عنه ( ولا يضارر ) بالإظهار والكسر ، وقراءة ابن عباس ( ولا يضارر ) بالإظهار والفتح ، واختار الزجاج القول الأول ، واحتج عليه بقوله تعالى بعد ذلك ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) قال وذلك لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة وبمن يمتنع عن الشهادة حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أضر الكاتب والشهيد ولأنه تعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشهادة ( ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) [ البقرة : 283] والآثم والفاسق متقاربان ، واحتج من نصر القول الثاني بأن هذا لو كان [ ص: 104 ] خطابا للكاتب والشهيد لقيل : وإن تفعلا فإنه فسوق بكم ، وإذا كان هذا خطابا للذين يقدمون على المداينة فالمنهيون عن الضرار هم والله أعلم .

ثم قال : ( وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم ) وفيه وجهان أحدهما : يحتمل أنه يحمل على هذا الموضع خاصة والمعنى : فإن تفعلوا ما نهيتكم عنه من الضرار ، والثاني : أنه عام في جميع التكليف ، والمعنى : وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به فإنه فسوق بكم ، أي : خروج عن أمر الله تعالى وطاعته .

ثم قال تعالى : ( واتقوا الله ) يعني فيما حذر منه ههنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاما ، والمعنى اتقوا الله في جميع أوامره ونواهيه .

ثم قال : ( ويعلمكم الله ) والمعنى : أنه يعلمكم ما يكون إرشادا واحتياطا في أمر الدنيا ، كما يعلمكم ما يكون إرشادا في أمر الدين ( والله بكل شيء عليم ) إشارة إلى كونه سبحانه وتعالى عالما بجميع مصالح الدنيا والآخرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية