صفحة جزء
ثم حكى عنهم بعد ذلك أنهم قالوا ( غفرانك ربنا وإليك المصير ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في هذه الآية سؤال ، وهو أن القوم لما قبلوا التكاليف وعملوا بها ، فأي حاجة بهم إلى طلبهم المغفرة ؟

والجواب من وجوه :

الأول : أنهم وإن بذلوا مجهودهم في أداء هذه التكاليف إلا أنهم كانوا خائفين من تقصير يصدر عنهم ، فلما جوزوا ذلك قالوا ( غفرانك ربنا ) ومعناه أنهم يلتمسون من قبله الغفران فيما يخافون من تقصيرهم فيما يأتون ويذرون .

والثاني : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " فذكروا لهذا الحديث تأويلات من جملتها : أنه عليه الصلاة والسلام كان في الترقي في درجات العبودية فكان كلما ترقى من مقام إلى مقام أعلى من الأول رأى الأول حقيرا ، فكان يستغفر الله منه ، فحمل طلب الغفران في القرآن في هذه الآية على هذا الوجه أيضا غير مستبعد .

والثالث : أن جميع الطاعات في مقابلة حقوق إلاهيته جنايات ، وكل أنواع المعارف الحاصلة عند الخلق في مقابلة أنوار كبريائه تقصير وقصور وجهل ، ولذلك قال : ( وما قدروا الله حق قدره ) [ الأنعام : 91 ] وإذا كان كذلك فالعبد في أي مقام كان من مقام العبودية ، وإن كان عالما جدا إذا قوبل ذلك بجلال كبرياء الله تعالى صار عين التقصير الذي يجب الاستغفار منه ، وهذا هو السر في قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك ) [ محمد : 19 ] فإن مقامات عبوديته وإن كانت عالية إلا أنه كان ينكشف له في درجات مكاشفاته أنها بالنسبة إلى ما يليق بالحضرة الصمدية عن التقصير ، فكان يستغفر منها ، وكذلك حكى عن أهل الجنة كلامهم فقال ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ) [ يونس : 10 ] فسبحانك اللهم إشارة إلى التنزيه .

ثم إنه قال : ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ) [ يونس : 10 ] يعني أن كل الحمد لله وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا .

المسألة الثانية : قوله : ( غفرانك ) تقديره : اغفر غفرانك ، ويستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء نحو [ ص: 120 ] سقيا ورعيا ، قال الفراء : هو مصدر وقع موقع الأمر فنصب ، ومثله الصلاة الصلاة ، والأسد الأسد ، وهذا أولى من قول من قال : نسألك غفرانك ؛ لأن هذه الصيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى ابتداء كانت أدل عليه ، ونظيره قولك : حمدا حمدا ، وشكرا شكرا ، أي أحمد حمدا ، وأشكر شكرا.

المسألة الثالثة : أن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين أحدهما : بالإضافة إليه ، وهو قوله : ( غفرانك ) والثاني : أردفه بقوله ( ربنا ) وهذان القيدان يتضمنان فوائد :

إحداها : أنت الكامل في هذه الصفة ، فأنت غافر الذنب ، وأنت غفور ( وربك الغفور ) [ الكهف : 58 ] ( وهو الغفور الودود ) [ البروج : 14 ] وأنت الغفار ( استغفروا ربكم إنه كان غفارا ) [ نوح : 10 ] يعني أنه ليست غفاريته من هذا الوقت ، بل كان قبل هذا الوقت غفار الذنوب ، فهذه الغفارية كالحرفة له ، فقوله ههنا ( غفرانك ) يعني أطلب الغفران منك وأنت الكامل في هذه الصفة ، والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة ، فقوله : ( غفرانك ) طلب لغفران كامل ، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب بفضله ورحمته ، ويبدلها بالحسنات ، كما قال : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) [ الفرقان : 70 ] .

وثانيها : روي في الحديث الصحيح " إن لله مائة جزء من الرحمة قسم جزءا واحدا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات ، فبها يتراحمون ، وادخر تسعة وتسعين جزءا ليوم القيامة " فأظن أن المراد من قوله : ( غفرانك ) هو ذلك الغفران الكبير ، كان العبد يقول : هب أن جرمي كبير لكن غفرانك أعظم من جرمي .

وثالثها : كأن العبد يقول : كل صفة من صفات جلالك وإلاهيتك ، فإنما يظهر أثرها في محل معين ، فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك ، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك ، فكذا لولا جرم العبد وجنايته ، وعجزه وحاجته ، لما ظهرت آثار غفرانك ، فقوله : ( غفرانك ) معناه طلب الغفران الذي لا يمكن ظهور أثره إلا في حقي ، وفي حق أمثالي من المجرمين .

وأما القيد الثاني : وهو قوله : ( ربنا ) ففيه فوائد :

أولها : ربيتني حين ما لم أذكرك بالتوحيد ، فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني عندما أفنيت عمري في توحيدك .

وثانيها : ربيتني حين كنت معدوما ، ولو لم تربني في ذلك الوقت لما تضررت به ؛ لأني كنت أبقى حينئذ في العدم ، وأما الآن فلو لم تربني وقعت في الضرر الشديد ، فأسألك أن لا تهملني .

وثالثها : ربيتني في الماضي فاجعل لي في الماضي شفيعي إليك في أن تربيني في المستقبل .

ورابعها : ربيتني في الماضي فإتمام المعروف خير من ابتدائه ، فتمم هذه التربية بفضلك ورحمتك .

ثم قال الله تعالى : ( وإليك المصير ) وفيه فائدتان :

إحداهما : بيان أنهم كما أقروا بالمبدأ فكذلك أقروا بالمعاد ؛ لأن الإيمان بالمبدأ أصل الإيمان بالمعاد ، فإن من أقر أن الله عالم بالجزئيات ، وقادر على كل الممكنات ، لا بد وأن يقر بالمعاد .

والثانية : بيان أن العبد متى علم أنه لا بد من المصير إليه ، والذهاب إلى حيث لا حكم إلا حكم الله ، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذن الله ، كان إخلاصه في الطاعات أتم ، واحترازه عن السيئات أكمل ، وههنا آخر ما شرح الله تعالى من إيمان المؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية