صفحة جزء
[ ص: 121 ] ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )

قوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )

اعلم أن في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) يحتمل أن يكون ابتداء خبر من الله ويحتمل أن يكون حكاية عن الرسول والمؤمنين على نسق الكلام في قوله : ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، وقالوا : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ويؤيد ذلك ما أردفه من قوله : ( ربنا لا تؤاخذنا ) فكأنه تعالى حكى عنهم طريقتهم في التمسك بالإيمان والعمل الصالح وحكى عنهم في جملة ذلك أنهم وصفوا ربهم بأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها .

المسألة الثانية : في كيفية النظم : إن قلنا إن هذا من كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم لما قالوا ( سمعنا وأطعنا ) فكأنهم قالوا : كيف لا نسمع ولا نطيع ، وأنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا ، فإذا كان هو تعالى بحكم الرحمة الإلهية لا يطالبنا إلا بالشيء السهل الهين ، فكذلك نحن بحكم العبودية وجب أن نكون سامعين مطيعين ، وإن قلنا : إن هذا من كلام الله تعالى فوجه النظم أنهم لما قالوا : ( سمعنا وأطعنا ) ثم قالوا بعده : ( غفرانك ربنا ) دل ذلك على أن قولهم : ( غفرانك ) طلبا للمغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التقصير منهم على سبيل العمد ، فلما كان قولهم : ( غفرانك ) طلبا للمغفرة في ذلك التقصير ، لا جرم خفف الله تعالى عنهم ذلك ، وقال : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) والمعنى أنكم إذا سمعتم وأطعتم ، وما تعمدتم التقصير ، فعند ذلك لو وقع منكم نوع تقصير على سبيل السهو والغفلة فلا تكونوا خائفين منه ، فإن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وبالجملة فهذا إجابة لهم في دعائهم في قولهم : ( غفرانك ربنا ) .

المسألة الثالثة : يقال : كلفته الشيء فتكلف ، والكلف اسم منه ، والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه ، قال الفراء : هو اسم كالوجد والجهد ، وقال بعضهم : الوسع دون المجهود في المشقة ، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان .

المسألة الرابعة : المعتزلة عولوا على هذه الآية في أنه تعالى لا يكلف العبد ما لا يطيقه ولا يقدر عليه ، ونظيره قوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ الحج : 78 ) ] ، وقوله ( يريد الله أن يخفف عنكم ) [ النساء : 28 ] ، وقوله ( يريد الله بكم اليسر ) [ البقرة : 185 ] وقالوا : هذه الآية صريحة في نفي تكليف ما لا يطاق ، قالوا : وإذا ثبت هذا فههنا أصلان :

الأول : أن العبد موجد لأفعال نفسه ، فإنه لو كان موجدها هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفا بما لا يطاق ، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة ولا قدرة البتة للعبد على ذلك الفعل ولا على تركه ، إما إنه لا قدرة له على الفعل ، فلأن ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى ، والموجود لا يوجد ثانيا ، وإما أنه لا قدرة له على الدفع فلأن قدرته أضعف من قدرة الله تعالى ، فكيف [ ص: 122 ] تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى وإذا لم يخلق الله الفعل استحال أن يكون للعبد قدرة على التحصيل ، فثبت أنه لو كان الموجد لفعل العبد هو الله تعالى لكان تكليف العبد بالفعل تكليفا بما لا يطاق .

والثاني : أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادرا على الإيمان ، فكان ذلك التكليف بما لا يطاق هذا تمام استدلال المعتزلة في هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية