صفحة جزء
أما الأصحاب فقالوا : دلت الدلائل العقلية على وقوع التكليف على هذا الوجه ، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية .

الحجة الأولى : أن من مات على الكفر ينبئ موته على الكفر أن الله تعالى كان عالما في الأزل بأنه يموت على الكفر ولا يؤمن قط ، فكان العلم بعدم الإيمان موجودا ، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان على ما قررناه في مواضع ، وهو أيضا مقدمة بينة بنفسها ، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفا بالجمع بين النقيضين ، وهذه الحجة كما أنها جارية في العلم ، فهي أيضا جارية في الجبر .

الحجة الثانية : أن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ، وتلك الداعية مخلوقة لله تعالى ومتى كان الأمر كذلك كان تكليف ما لا يطاق لازما ، إنما قلنا : إن صدور الفعل عن العبد يتوقف على الداعي ؛ لأن قدرة العبد لما كانت صالحة للفعل والترك ، فلو ترجح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجح لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإنما قلنا : إن تلك الداعية من الله تعالى لأنها لو كانت من العبد لافتقر إيجادها إلى داعية أخرى ولزم التسلسل ، وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك لزم الجبر ؛ لأن عند حصول الداعية المرجحة لأحد الطرفين صار الطرف الآخر مرجوحا ، والمرجوح ممتنع الوقوع ، وإذا كان المرجوح ممتنعا كان الراجح واجبا ضرورة لأنه لا خروج عن النقيضين ، فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعا وهو مكلف به ، فكان التكليف تكليف ما لا يطاق .

الحجة الثالثة : أن التكليف إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعيين ، أو حال رجحان أحدهما ، فإن كان الأول فهو تكليف ما لا يطاق ، لأن الاستواء يناقض الرجحان ، فإذا كلف حال حصول الاستواء بالرجحان ، فقد كلف بالجمع بين النقيضين ، وإن كان الثاني فالراجح واجب ، والمرجوح ممتنع ، وإن وقع التكليف بالراجح فقد وقع بالواجب ، وإن وقع بالمرجوح فقد وقع بالممتنع .

الحجة الرابعة : أنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان ، والإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه ، وهو مما أخبر أنه لا يؤمن ، فقد صار أبو لهب مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وذلك تكليف ما لا يطاق .

الحجة الخامسة : العبد غير عالم بتفاصيل فعله ؛ لأن من حرك أصبعه لم يعرف عدد الأحيان التي حرك أصبعه فيها ، لأن الحركة البطيئة عبارة عند المتكلمين عن حركات مختلطة بسكنات ، والعبد لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحيان ، ويسكن في بعضها ، وأنه أين تحرك وأين سكن ، وإذا لم يكن عالما بتفاصيل فعله لم يكن موجدا لها ؛ لأنه لم يقصد إيجاد ذلك العدد المخصوص من الأفعال ، فلو فعل ذلك العدد دون الأزيد ودون الأنقص فقد ترجح الممكن لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن العبد غير موجد ، فإذا لم يكن موجدا كان تكليف ما لا يطاق لازما على ما ذكرتم ، فهذه وجوه عقلية قطعية يقينية في هذا الباب ، فعلمنا أنه [ ص: 123 ] لا بد للآية من التأويل وفيه وجوه :

الأول : وهو الأصوب : أنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي ، والظاهر السمعي ، فإما أن يصدقهما وهو محال ؛ لأنه جمع بين النقيضين ، وإما أن يكذبهما وهو محال ؛ لأنه إبطال النقيضين ، وإما أن يكذب القاطع العقلي ، ويرجح الظاهر السمعي ، وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية ، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوة والقرآن .

وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معا ، فلم يبق إلا أن يقطع بصحة الدلائل العقلية ، ويحمل الظاهر السمعي على التأويل ، وهذا الكلام هو الذي تعول المعتزلة عليه أبدا في دفع الظواهر التي تمسك بها أهل التشبيه ، فبهذا الطريق علمنا أن لهذه الآية تأويلا في الجملة ، سواء عرفناه أو لم نعرفه ، وحينئذ لا يحتاج إلى الخوض فيه على سبيل التفصيل .

الوجه الثاني في الجواب : هو أنه لا معنى للتكليف في الأمر والنهي إلا الإعلام بأنه متى فعل كذا فإنه يثاب ، ومتى لم يفعل فإنه يعاقب ، فإذا وجد ظاهر الأمر فإن كان المأمور به ممكنا كان ذلك أمرا وتكليفا في الحقيقة ، وإلا لم يكن في الحقيقة تكليفا ، بل كان إعلاما بنزول العقاب به في الدار الآخرة ، وإشعارا بأنه إنما خلق للنار .

والجواب الثالث : وهو أن الإنسان ما دام لم يمت ، وأنا لا ندري أن الله تعالى علم منه أنه يموت على الكفر أو ليس كذلك ، فنحن شاكون في قيام المانع ، فلا جرم نأمره بالإيمان ونحثه عليه ، فإذا مات على الكفر علمنا بعد موته أن المانع كان قائما في حقه . فتبين أن شرط التكليف كان زائلا عنه حال حياته ، وهذا قول طائفة من قدماء أهل الجبر.

الجواب الرابع : أنا بينا أن قوله : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ليس قول الله تعالى ، بل هو قول المؤمنين ، فلا يكون حجة ، إلا أن هذا ضعيف ، وذلك لأن الله تعالى لما حكاه عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم ، فبسبب هذا الكلام وجب أن يكونوا صادقين في هذا الكلام ، إذ لو كانوا كاذبين فيه لما جاز تعظيمهم بسببه ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الموضع ونسأل الله العظيم أن يرحم عجزنا وقصور فهمنا ، وأن يعفو عن خطايانا ، فإنا لا نطلب إلا الحق ، ولا نروم إلا الصدق .

التالي السابق


الخدمات العلمية