[ ص: 166 ] ثم قال تعالى : ( 
يرونهم مثليهم رأي العين   ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : قرأ 
نافع  وأبان  عن 
عاصم    " ترونهم " بالتاء المنقطة من فوق ، والباقون بالياء فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب 
لليهود  ، والمعنى ترون أيها 
اليهود  المسلمين مثلي ما كانوا ، أو مثلي الفئة الكافرة ، أو تكون الآية خطابا مع مشركي 
قريش  والمعنى : ترون يا مشركي 
قريش  المسلمون مثلي فئتكم الكافرة ، ومن قرأ بالياء فللمغالبة التي جاءت بعد الخطاب ، وهو قوله ( 
فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم   ) فقوله ( يرونهم ) يعود إلى الإخبار عن إحدى الفئتين . 
المسألة الثانية : اعلم أنه قد تقدم في هذه الآية 
ذكر الفئة الكافرة وذكر الفئة المسلمة فقوله ( 
يرونهم مثليهم   ) يحتمل أن يكون الراءون هم الفئة الكافرة ، والمرئيون هم الفئة المسلمة ، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك فهذان احتمالان ، وأيضا فقوله ( مثليهم ) يحتمل أن يكون المراد مثلي الرائين وأن يكون المراد مثلي المرئيين ، فإذن هذه الآية تحتمل وجوها أربعة : 
الأول : أن يكون المراد أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين . 
والاحتمال الثاني : أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين ، والحكمة في ذلك أنه تعالى كثر المسلمين في أعين المشركين مع قلتهم ليهابوهم فيحترزوا عن قتالهم . 
فإن قيل : هذا متناقض لقوله تعالى في سورة الأنفال ( 
ويقللكم في أعينهم   ) [ الأنفال : 44 ] . 
فالجواب : أنه كان التقليل والتكثير في حالين مختلفين ، فقللوا أولا في أعينهم حتى اجترءوا عليهم ، فلما تلاقوا كثرهم الله في أعينهم حتى صاروا مغلوبين ، ثم إن تقليلهم في أول الأمر ، وتكثيرهم في آخر الأمر ، أبلغ في القدرة وإظهار الآية . 
والاحتمال الثالث : أن الرائين هم المسلمون ، والمرئيين هم المشركون ، فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين ستمائة وأزيد ، والسبب فيه أن الله تعالى أمر المسلم الواحد بمقاومة الكافرين ، قال الله تعالى : ( 
فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين   ) [ الأنفال : 66 ] . 
فإن قيل : كيف يرونهم مثليهم رأي العين ، وكانوا ثلاثة أمثالهم ؟ 
الجواب : أن الله تعالى إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي علم المسلمون أنهم يغلبونهم ، وذلك لأنه تعالى قال : ( 
فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين   ) فأظهر ذلك العدد من المشركين للمؤمنين تقوية لقلوبهم ، وإزالة للخوف عن صدورهم . 
والاحتمال الرابع : أن الرائين هم المسلمون ، وأنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين ، فهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد ، لأن هذا يوجب نصرة المشركين بإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك . 
وفي الآية احتمال خامس ، وهو أنا أول الآية قد بينا أن الخطاب مع 
اليهود  ، فيكون المراد ترون أيها 
اليهود  المشركين مثلي المؤمنين في القوة والشوكة . 
فإن قيل : كيف رأوهم مثليهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ؟ فقد سبق الجواب عنه .  
[ ص: 167 ] بقي من مباحث هذا الموضع أمران : 
البحث الأول : أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا ، والاحتمال الثالث يقتضي أن ما وجد وحضر لم يصر مرئيا ، أما الأول : فهو محال عقلا ; لأن المعدوم لا يرى ، فلا جرم وجب حمل الرؤية على الظن القوي ، وأما الثاني : فهو جائز عند أصحابنا ; لأن عندنا مع حصول الشرائط وصحة الحاسد يكون الإدراك جائزا لا واجبا ، وكان ذلك الزمان زمان ظهور المعجزات وخوارق العادات ، فلم يبعد أن يقال : إنه حصل ذلك المعجز ، وأما 
المعتزلة  فعندهم الإدراك واجب الحصول عند اجتماع الشرائط وسلامة الحاسد ، فلهذا المعنى اعتذر القاضي عن هذا الموضع من وجوه : 
أحدها : أن عند الاشتغال بالمحاربة والمقاتلة قد لا يتفرغ الإنسان لأن يدير حدقته حول العسكر وينظر إليهم على سبيل التأمل التام ، فلا جرم يرى البعض دون البعض . 
وثانيها : لعله يحدث عند المحاربة من الغبار ما يصير مانعا عن إدراك البعض . 
وثالثها : يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق في الهواء ما صار مانعا عن إدراك ثلث العسكر ، وكل ذلك محتمل . 
البحث الثاني : اللفظ وإن احتمل أن يكون الراءون هم المشركون ، وأن يكون هم المسلمون فأي الاحتمالين أظهر ؟ 
فقيل : إن كون المشرك رائيا أولى ، ويدل عليه وجوه : 
الأول : أن تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول ، فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا ، وأبعدهما مفعولا أولى من العكس ، وأقرب المذكورين هو قوله ( 
وأخرى كافرة   ) . 
والثاني : أن مقدمة الآية وهو قوله ( 
قد كان لكم آية   ) خطاب مع الكفار ، فقراءة نافع بالتاء يكون خطابا مع أولئك الكفار والمعنى ترون يا مشركي 
قريش  المسلمين مثليهم ، فهذه القراءة لا تساعد إلا على كون الرائي مشركا . 
الثالث : أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار ، حيث قال : ( 
قد كان لكم آية في فئتين التقتا   ) فوجب أن تكون هذه الحالة مما يشاهدها الكافر حتى تكون حجة عليه ، أما لو كانت هذه الحالة حاصلة للمؤمن لم يصح جعلها حجة للكافر والله أعلم . 
واحتج من قال : الراءون هم المسلمون ، وذلك لأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤية ما ليس بموجود وهو محال ، ولو كان الراءون هم المؤمنون لزم أن لا يرى ما هو موجود وهذا ليس بمحال ، وكان ذلك أولى والله أعلم . 
ثم قال : ( 
رأي العين   ) يقال : رأيته رأيا ورؤية ، ورأيت في المنام رؤيا حسنة ، فالرؤية مختص بالمنام ، ويقول : هو مني مرأى العين حيث يقع عليه بصري ، فقوله ( 
رأي العين   ) يجوز أن ينتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون ظرفا للمكان ، كما تقول : ترونهم أمامكم ، ومثله : هو مني مناط العنق ومزجر الكلب . 
ثم قال : ( 
والله يؤيد بنصره من يشاء   ) نصر الله المسلمين على وجهين : 
نصر بالغلبة كنصر يوم 
بدر  ، ونصر بالحجة ، فلهذا المعنى لو قدرنا أنه هزم قوم من المؤمنين لجاز أن يقال : هم المنصورون لأنهم هم المنصورون بالحجة ، وبالعاقبة الحميدة ، والمقصود من الآية أن النصر والظفر إنما يحصلان بتأييد الله ونصره ، لا بكثرة العدد والشوكة والسلاح . 
ثم قال : ( 
إن في ذلك لعبرة   ) والعبرة الاعتبار وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم وأصله   
[ ص: 168 ] من العبور وهو النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر ، ومنه العبارة وهي الكلام الذي يعبر بالمعنى إلى المخاطب ، وعبارة الرؤيا من ذلك ، لأنها تعبير لها ، وقوله ( 
لأولي الأبصار   ) أي لأولي العقول ، كما يقال : لفلان بصر بهذا الأمر ، أي علم ومعرفة ، والله أعلم .