صفحة جزء
أما قوله : ( وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) ففيه مسألتان :

المسألة الأولى : قال الواحدي : الأظهر أن يجعل ( ما ) هاهنا بمنزلة الذي ، ويكون " عملت " صلة لها ، ويكون معطوفا على " ما " الأول ، ولا يجوز أن تكون " ما " شرطية ، وإلا كان يلزم أن ينصب " تود " أو يخفضه ، ولم يقرأه أحد إلا بالرفع ، فكان هذا دليلا على أن " ما " هاهنا بمعنى الذي .

فإن قيل : فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ، "ودت" .

قلنا : لا كلام في صحته لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع ، لأنه حكاية حال الكافر في ذلك اليوم ، وأكثر موافقة للقراءة المشهورة .

المسألة الثانية : الواو في قوله : ( وما عملت من سوء ) فيه قولان :

الأول : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : الواو واو العطف ، والتقدير : تجد ما عملت من خير وما عملت من سوء ، وأما قوله : ( تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) ففيه وجهان :الأول : أنه صفة للسوء ، والتقدير : وما عملت من سوء الذي تود أن يبعد ما بينها وبينه ، والثاني : أن يكون حالا ، والتقدير : يوم تجد ما عملت من سوء محضرا حال ما تود بعده عنها .

والقول الثاني : أن الواو للاستئناف ، وعلى هذا القول لا تكون الآية دليلا على القطع بوعيد المذنبين ، وموضع الكرم واللطف هذا ، وذلك لأنه نص في جانب الثواب على كونه محضرا ، وأما في جانب العقاب فلم ينص على الحضور ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك ينبه على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيد .

المسألة الثالثة : الأمد ، الغاية التي ينتهى إليها ونظيره قوله تعالى : ( ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ) [ الزخرف : 38 ] .

واعلم أن المراد من هذا التمني معلوم ، سواء حملنا لفظ الأمد على الزمان أو على المكان ، إذ المقصود تمني بعده ، ثم قال : ( ويحذركم الله نفسه ) وهو لتأكيد الوعيد . ثم قال : ( والله رءوف بالعباد ) وفيه وجوه :

الأول : أنه رؤوف بهم حيث حذرهم من نفسه ، وعرفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه ، قال الحسن : ومن رأفته بهم أن حذرهم نفسه .

الثاني : أنه رؤوف بالعباد حيث أمهلهم للتوبة والتدارك والتلافي . الثالث : أنه لما قال : ( ويحذركم الله نفسه ) وهو للوعيد أتبعه بقوله : ( والله رءوف بالعباد ) وهو الموعد ليعلم العبد أن وعده ورحمته ، غالب على وعيده وسخطه .

والرابع : وهو أن لفظ العباد في القرآن مختص ، قال تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) [الفرقان : 63 ] وقال تعالى : ( عينا يشرب بها عباد الله ) [الإنسان : 6 ] [ ص: 16 ] فكان المعنى أنه لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة فقال : ( والله رءوف بالعباد ) أي كما هو منتقم من الفساق ، فهو رؤوف بالمطيعين والمحسنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية