أما قوله : ( 
وهو قائم يصلي في المحراب   ) فهو يدل على أن الصلاة كانت مشروعة في دينهم ، والمحراب قد ذكرنا معناه . 
أما قوله : ( 
أن الله يبشرك بيحيى   ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : أما البشارة فقد فسرناها في قوله تعالى : ( 
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات   ) [ البقرة : 25 ] وفي قوله : ( 
يبشرك بيحيى   ) وجهان : الأول : 
أنه تعالى كان قد عرف زكريا  أنه سيكون في الأنبياء رجل اسمه يحيى  وله ذرية عالية ، فإذا قيل : إن ذلك النبي المسمى 
بيحيى  هو ولدك كان ذلك بشارة له 
بيحيى    - عليه السلام - والثاني : أن الله يبشرك بولد اسمه 
يحيى    . 
المسألة الثانية : قرأ 
ابن عامر  وحمزة    " إن " بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها ، أما الكسر فعلى إرادة القول ، أو لأن النداء نوع من القول ، وأما الفتح فتقديره : فنادته الملائكة بأن الله يبشرك . 
المسألة الثالثة : قرأ 
حمزة  والكسائي    " يبشرك " بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين ، وقرأ الباقون " يبشرك " وقرئ أيضا " يبشرك " قال 
أبو زيد  يقال : بشر يبشر بشرا ، وبشر يبشر تبشيرا ، وأبشر يبشر ثلاث لغات . 
المسألة الرابعة : قرأ 
حمزة  والكسائي    " 
يحيى    " بالإمالة لأجل الياء والباقون بالتفخيم ، وأما أنه لم سمي 
يحيى  فقد ذكرناه في سورة مريم ، واعلم أنه تعالى ذكر من 
صفات يحيى  ثلاثة أنواع   : 
الصفة الأولى : قوله : ( 
مصدقا بكلمة من الله   ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : قال 
الواحدي    : قوله : ( 
مصدقا بكلمة من الله   ) نصب على الحال لأنه نكرة ، 
ويحيى  معرفة . 
المسألة الثانية : في المراد 
بكلمة من الله قولان : 
الأول : وهو قول 
أبي عبيدة    : أنها كتاب من الله ، واستشهد بقولهم : أنشد فلان كلمة ، والمراد به القصيدة الطويلة .  
[ ص: 32 ] والقول الثاني : وهو اختيار الجمهور : أن المراد من قوله : ( 
بكلمة من الله   ) هو 
عيسى    -عليه السلام - قال 
السدي    : لقيت 
أم عيسى  أم يحيى    - عليهما السلام - وهذه حامل 
بيحيى  وتلك 
بعيسى  ، فقالت : يا 
مريم  أشعرت أني حبلى ؟ فقالت 
مريم    : وأنا أيضا حبلى ، قالت 
امرأة زكريا  فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله : ( 
مصدقا بكلمة من الله   ) وقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : إن 
يحيى  كان أكبر سنا من 
عيسى  بستة أشهر ، وكان 
يحيى  أول من آمن وصدق بأنه كلمة الله وروحه ، ثم قتل 
يحيى  قبل رفع 
عيسى    -عليهما السلام - ، فإن قيل : 
لم سمي عيسى  كلمة في هذه الآية ، وفي قوله : ( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته   )   [ النساء : 171 ] ؟ قلنا : فيه وجوه : 
الأول : أنه خلق بكلمة الله ، وهو قوله : " كن " من غير واسطة الأب ، فلما كان تكوينه بمحض قول الله " كن " وبمحض تكوينه وتخليقه من غير واسطة الأب والبذر ، لا جرم سمي : كلمة كما يسمى المخلوق خلقا ، والمقدور قدرة ، والمرجو رجاء ، والمشتهى شهوة ، وهذا باب مشهور في اللغة . 
والثاني : أنه تكلم في الطفولية ، وآتاه الله الكتاب في زمان الطفولية ، فكان في كونه متكلما بالغا مبلغا عظيما ، فسمي كلمة بهذا التأويل وهو مثل ما يقال : فلان جود وإقبال إذا كان كاملا فيهما . 
والثالث : أن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق ، كذلك 
عيسى  كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية ، فسمي : كلمة ، بهذا التأويل ، وهو مثل 
تسميته روحا من حيث إن الله تعالى أحيا به من الضلالة كما يحيا الإنسان بالروح ، وقد 
سمى الله القرآن روحا فقال : ( 
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا   ) [ الشورى : 52 ] . 
والرابع : أنه قد وردت البشارة به في كتب الأنبياء الذين كانوا قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة ، فسمي كلمة بهذا التأويل قالوا : ووجه المجاز فيه أن من أخبر عن حدوث أمر فإذا حدث ذلك الأمر قال : قد جاء قولي وجاء كلامي ، أي ما كنت أقول وأتكلم به ، ونظيره قوله تعالى : ( 
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار   ) [ غافر : 6 ] وقال : ( 
ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين   ) [ الزمر : 71 ] . 
الخامس : أن الإنسان قد يسمى بفضل الله ولطف الله ، فكذا 
عيسى - عليه السلام    - كان اسمه العلم : كلمة الله ، وروح الله ، واعلم أن كلمة الله هي كلامه ، وكلامه على قول أهل السنة صفة قديمة قائمة بذاته ، وعلى قول 
المعتزلة  أصوات يخلقها الله تعالى في جسم مخصوص دالة بالوضع على معان مخصوصة ، والعلم الضروري حاصل بأن الصفة القديمة أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : أنها هي ذات 
عيسى    - عليه السلام - ، ولما كان ذلك باطلا في بداهة العقول لم يبق إلا التأويل .