صفحة جزء
ثم قال الله تعالى : ( واذكر ربك كثيرا ) وفيه قولان : أحدهما : أنه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا " إلا رمزا " فأما في الذكر والتسبيح ، فقد كان لسانه جيدا ، وكان ذلك من المعجزات الباهرة . والثاني : إن المراد منه الذكر بالقلب وذلك ؛ لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في الأول أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله سكت اللسان وبقي الذكر في القلب ، ولذلك قالوا : من عرف الله كل لسانه ، فكأن زكريا - عليه السلام - أمر بالسكوت واستحضار معاني الذكر والمعرفة واستدامتها .

قوله تعالى : ( وسبح بالعشي والإبكار ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : ( العشي ) من حين نزول الشمس إلى أن تغيب ، قال الشاعر :


فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق



والفيء ، إنما يكون من حين زوال الشمس إلى أن يتناهى غروبها ، وأما الإبكار فهو مصدر بكر يبكر إذا خرج للأمر في أول النهار ، ومثله بكر وابتكر وبكر ، ومنه الباكورة لأول الثمرة ، هذا هو أصل اللغة ، ثم سمي ما بين طلوع الفجر إلى الضحى : إبكارا ، كما سمي إصباحا ، وقرأ بعضهم " والأبكار " بفتح الهمزة ، جمع بكر كسحر وأسحار ، ويقال : أتيته بكرا بفتحتين .

المسألة الثانية : في قوله : ( وسبح ) قولان : أحدهما : المراد منه : وصل لأن الصلاة تسمى تسبيحا قال الله تعالى : ( فسبحان الله حين تمسون ) وأيضا الصلاة مشتملة على التسبيح ، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح ، وهاهنا الدليل دل على وقوع هذا المحتمل وهو من وجهين :

الأول : أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله : ( واذكر ربك ) فرق ، وحينئذ يبطل ؛ لأن عطف الشيء على نفسه غير جائز .

والثاني : وهو أنه شديد الموافقة لقوله تعالى : ( وأقم الصلاة طرفي النهار ) [ هود : 114] ، وثانيهما : أن قوله : ( واذكر ربك ) محمول على الذكر باللسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية