صفحة جزء
القصة الثالثة

وصفه طهارة مريم صلوات الله عليها

( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين )

قوله سبحانه وتعالى : ( وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) وفيه مسائل :

[ ص: 38 ] المسألة الأولى : عامل الإعراب هاهنا في " إذ " هو ما ذكرناه في قوله : ( إذ قالت امرأة عمران ) [ آل عمران : 35 ] من قوله : ( سميع عليم ) ثم عطف عليه ( إذ قالت الملائكة ) وقيل : تقديره واذكر إذ قالت الملائكة .

المسألة الثانية : قالوا المراد بالملائكة هاهنا جبريل وحده ، وهذا كقوله : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) [ النحل : 2 ] يعني جبريل ، وهذا وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه ؛ لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم - عليها السلام - هو جبريل -عليه السلام - ، وهو قوله : ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ) [ مريم : 17 ] .

المسألة الثالثة : اعلم أن مريم - عليها السلام - ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ) [ يوسف : 109 ] وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل - عليه السلام - إليها إما أن يكون كرامة لها ، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ، أو إرهاصا لعيسى - عليه السلام - ، وذلك جائز عندنا ، وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكرياء -عليه السلام - ، وهو قول جمهور المعتزلة ، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب ، كما كان في حق أم موسى - عليه السلام - في قوله : ( وأوحينا إلى أم موسى ) [ القصص : 7 ] .

المسألة الرابعة : اعلم أن المذكور في هذه الآية أولا : هو الاصطفاء ، وثانيا : التطهير ، وثالثا : الاصطفاء على نساء العالمين ، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولا من الاصطفاء الثاني ، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق ، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها ، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها .

النوع الأول من الاصطفاء : فهو أمور :

أحدها : أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث .

وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، وكان رزقها يأتيها من الجنة .

وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته ، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة .

ورابعها : أنه كفاها أمر معيشتها ، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى : ( أنى لك هذا قالت هو من عند الله ) .

وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها ، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول .

وأما التطهير ففيه وجوه :

أحدها : أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية ، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ويطهركم تطهيرا ) [ الأحزاب : 33 ] .

وثانيها : أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال .

وثالثها : طهرها عن الحيض ، قالوا : كانت مريم لا تحيض .

ورابعها : وطهرك من الأفعال الذميمة ، والعادات القبيحة .

وخامسها : وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم .

وأما الاصطفاء الثاني : فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى - عليه السلام - من غير أب ، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة .

[ ص: 39 ] المسألة الخامسة : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " حسبك من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة عليهن السلام " فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء ، وهذه الآية دلت على أن مريم - عليها السلام - أفضل من الكل ، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها ، فهذا ترك الظاهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية