[ ص: 56 ] أما قوله تعالى : ( 
قال الحواريون نحن أنصار الله   ) ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : ذكروا في لفظ " الحواري " وجوها : 
الأول : أن الحواري اسم موضوع لخاصة الرجل ، وخالصته ، ومنه يقال للدقيق حوارى ، لأنه هو الخالص منه ، 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012091وقال - صلى الله عليه وسلم - للزبير    : " إنه ابن عمتي ، وحواري من أمتي " والحواريات من النساء النقيات الألوان والجلود ، فعلى هذا الحواريون هم صفوة الأنبياء الذين خلصوا وأخلصوا في التصديق بهم وفي نصرتهم . 
القول الثاني : الحواري أصله من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه قيل للدقيق حوارى ، ومنه الأحور ، والحور نقاء بياض العين ، وحورت الثياب : بيضتها ، وعلى هذا القول اختلفوا في أن أولئك 
لم سموا بهذا الاسم ؟ فقال 
 nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير    : لبياض ثيابهم ، وقيل كانوا قصارين ، يبيضون الثياب ، وقيل لأن قلوبهم كانت نقية طاهرة من كل نفاق وريبة فسموا بذلك مدحا لهم ، وإشارة إلى نقاء قلوبهم ، كالثوب الأبيض ، وهذا كما يقال فلان نقي الجيب ، طاهر الذيل ، إذا كان بعيدا عن الأفعال الذميمة ، وفلان دنس الثياب : إذا كان مقدما على ما لا ينبغي . 
القول الثالث : قال 
الضحاك    : مر 
عيسى    - عليه السلام - بقوم من الذين كانوا يغسلون الثياب ، فدعاهم إلى الإيمان فآمنوا ، والذي يغسل الثياب يسمى بلغة النبط هواري ، وهو القصار ، فعربت هذه اللفظة فصارت حواري ، وقال 
مقاتل بن سليمان    : الحواريون : هم القصارون ، وإذا عرفت أصل هذا اللفظ فقد صار بعرف الاستعمال دليلا على خواص الرجل وبطانته . 
المسألة الثانية : اختلفوا في أن 
هؤلاء الحواريين من كانوا ؟   . 
فالقول الأول : إنه - عليه السلام - مر بهم وهم يصطادون السمك فقال لهم : " تعالوا نصطاد الناس " قالوا : من أنت ؟ قال : " أنا 
عيسى ابن مريم  ، عبد الله ورسوله " فطلبوا منه المعجز على ما قال فلما أظهر المعجز آمنوا به ، فهم 
الحواريون    . 
القول الثاني : قالوا : سلمته أمه إلى صباغ ، فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا كان هو أعلم به منه وأراد الصباغ أن يغيب لبعض مهماته ، فقال له : هاهنا ثياب مختلفة ، وقد علمت على كل واحد علامة معينة ، فاصبغها بتلك الألوان ، بحيث يتم المقصود عند رجوعي ، ثم غاب فطبخ 
عيسى    - عليه السلام - جبا واحدا ، وجعل الجميع فيه وقال : " كوني بإذن الله كما أريد " فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال : قد أفسدت علي الثياب ، قال : " قم فانظر " فكان يخرج ثوبا أحمر ، وثوبا أخضر ، وثوبا أصفر كما كان يريد ، إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها ، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به فهم 
الحواريون    . 
القول الثالث : كانوا 
الحواريون  اثني عشر رجلا اتبعوا 
عيسى    -عليه السلام - ، وكانوا إذا قالوا : يا روح الله جعنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج لكل واحد رغيفان ، وإذا عطشوا قالوا :يا روح الله عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض ، فيخرج الماء فيشربون ، فقالوا : من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك فقال : " أفضل منكم من يعمل بيده ، ويأكل من كسبه " فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ، فسموا حواريين . 
القول الرابع : أنهم كانوا ملوكا ، قالوا وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما ، وجمع الناس عليه ، وكان   
[ ص: 57 ] عيسى    - عليه السلام - على قصعة منها ، فكانت القصعة لا تنقص ، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك ، فقال : تعرفونه ، قالوا : نعم ، فذهبوا 
بعيسى    -عليه السلام - ، قال : من أنت ؟ قال : أنا 
عيسى ابن مريم  ، قال فإني أترك ملكي وأتبعك فتبعه ذلك الملك مع أقاربه ، فأولئك هم 
الحواريون  قال 
القفال    : ويجوز أن يكون بعض هؤلاء 
الحواريين  الاثني عشر من الملوك ، وبعضهم من صيادي السمك ، وبعضهم من القصارين ، والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار 
عيسى    -عليه السلام - ، وأعوانه ، والمخلصين في محبته ، وطاعته ، وخدمته . 
المسألة الثالثة : المراد من قوله : ( 
نحن أنصار الله   ) أي نحن أنصار دين الله وأنصار أنبيائه ؛ لأن نصرة الله تعالى في الحقيقة محال ، فالمراد منه ما ذكرناه . 
أما قوله : ( آمنا بالله ) فهذا يجري مجرى ذكر العلة ، والمعنى يجب علينا أن نكون من أنصار الله ، لأجل أنا آمنا بالله ، فإن الإيمان بالله يوجب نصرة دين الله ، والذب عن أوليائه ، والمحاربة مع أعدائه . 
ثم قالوا : ( 
واشهد بأنا مسلمون   ) وذلك لأن إشهادهم 
عيسى    - عليه السلام - على أنفسهم ، إشهاد لله تعالى أيضا ، ثم فيه قولان . 
الأول : المراد واشهد أنا منقادون لما تريده منا في نصرتك ، والذب عنك ، مستسلمون لأمر الله تعالى فيه . 
الثاني : أن ذلك إقرار منهم بأن دينهم الإسلام ، وأنه دين كل الأنبياء صلوات الله عليهم . 
واعلم أنهم لما أشهدوا 
عيسى    - عليه السلام - على إيمانهم ، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى ، وقالوا : ( 
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين   ) وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا في الآية المتقدمة : ( آمنا بالله ) ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا : ( 
آمنا بما أنزلت   ) وآمنوا برسول الله حيث ، قالوا : ( 
واتبعنا الرسول   ) فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ، فقالوا : ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل 
الحواريين  ، ويفضل على درجته ، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى : ( 
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا   ) [ البقرة : 143 ] . الثاني : وهو منقول أيضا عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) أي اكتبنا في زمرة الأنبياء ؛ لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى : ( 
فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين   ) [ الأعراف : 6 ] . 
وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلا ، فأحيوا الموتى ، وصنعوا كل ما صنع 
عيسى    - عليه السلام - . 
والقول الثالث : ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق ، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا 
عيسى    - عليه السلام - على إسلام أنفسهم ، حيث قالوا : ( 
واشهد بأنا مسلمون   ) فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيدا للأمر ، وتقوية له ، وأيضا طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوة . 
القول الرابع : إن قوله : ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى : ( 
كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين   ) [ المطففين : 18 ] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين .  
[ ص: 58 ] القول الخامس : إنه تعالى قال : ( 
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم   ) [ آل عمران : 18 ] فجعل أولي العلم من الشاهدين ، وقرن ذكرهم بذكر نفسه ، وذلك درجة عظيمة ، ومرتبة عالية ، فقالوا : ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك . 
والقول السادس : 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012092إن جبريل    - عليه السلام - لما سأل محمدا    - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان فقال : " أن تعبد الله كأنك تراه" وهذا 
غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية ، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود ، لا في مقام الغيبة ، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال ، إلى مقام الشهود والمكاشفة ، فقالوا : ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) . 
القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام ، فلما قبلوا من 
عيسى    - عليه السلام - أن يكونوا ناصرين له ، ذابين عنه ، قالوا : ( 
فاكتبنا مع الشاهدين   ) أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك ، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب ، فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك .