( 
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون   ) 
قوله تعالى : ( 
إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون   ) 
في الآية مسائل : 
المسألة الأولى : العامل في " إذ " قوله ( 
ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين   ) أي وجد هذا المكر إذ قال الله هذا القول ، وقيل : التقدير : ذاك إذ قال الله .  
[ ص: 60 ] المسألة الثانية : اعترفوا بأن 
الله تعالى شرف عيسى  في هذه الآية بصفات   : 
الصفة الأولى : ( إني متوفيك ) ، ونظيره قوله تعالى حكاية عنه : ( 
فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم   ) [ المائدة : 117 ] ، واختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين على طريقين : 
أحدهما : إجراء الآية على ظاهرها من غير تقديم ، ولا تأخير فيها . 
والثاني : فرض التقديم والتأخير فيها ، أما الطريق الأول فبيانه من وجوه : 
الأول : معنى قوله ( إني متوفيك ) أي متمم عمرك ، فحينئذ أتوفاك ، فلا أتركهم حتى يقتلوك ، بل أنا رافعك إلى سمائي ، ومقربك بملائكتي ، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن . 
والثاني : ( متوفيك ) أي مميتك ، وهو مروي عن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  ، 
ومحمد بن إسحاق  ، قالوا : والمقصود أن لا يصل أعداؤه من 
اليهود  إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرمه بأن رفعه إلى السماء ، ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه : 
أحدها : قال 
وهب    : توفي ثلاث ساعات ، ثم رفع . 
وثانيها : قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=13114محمد بن إسحاق    : توفي سبع ساعات ، ثم أحياه الله ورفعه . الثالث : قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس    : إنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء ، قال تعالى : ( 
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها   ) [ الزمر : 42 ] . 
الوجه الرابع : في تأويل الآية أن الواو في قوله : ( 
متوفيك ورافعك إلي   ) تفيد الترتيب ، فالآية تدل على أنه تعالى يفعل به هذه الأفعال ، فأما كيف يفعل ، ومتى يفعل ، فالأمر فيه موقوف على الدليل ، وقد ثبت الدليل أنه حي ، وورد الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " 
nindex.php?page=hadith&LINKID=16012093أنه سينزل ويقتل الدجال    " ثم إنه تعالى يتوفاه بعد ذلك . 
الوجه الخامس في التأويل : ما قاله 
أبو بكر الواسطي  ، وهو أن المراد ( إني متوفيك ) عن شهواتك وحظوظ نفسك ، ثم قال : ( ورافعك إلي ) وذلك لأن من لم يصر فانيا عما سوى الله لا يكون له وصول إلى مقام معرفة الله ، وأيضا 
فعيسى  لما رفع إلى السماء صار حاله كحال الملائكة في زوال الشهوة ، والغضب والأخلاق الذميمة . 
والوجه السادس : أن التوفي أخذ الشيء وافيا ، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ، ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى : ( 
وما يضرونك من شيء   ) [ النساء : 113 ] . 
والوجه السابع : ( إني متوفيك ) أي أجعلك كالمتوفى ؛ لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى ، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن . 
الوجه الثامن : أن التوفي هو القبض يقال : وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه ، كما يقال : سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه ، وقد يكون أيضا توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفيا له . 
فإن قيل : فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله : ( ورافعك إلي ) تكرارا . 
قلنا : قوله : ( إني متوفيك ) يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء ، فلما قال بعده : ( ورافعك إلي ) كان هذا تعيينا للنوع ولم يكن تكرارا . 
الوجه التاسع : أن يقدر فيه حذف المضاف ، والتقدير : متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك ( ورافعك )   
[ ص: 61 ]   ( إلي ) أي ورافع عملك إلي ، وهو كقوله : ( 
إليه يصعد الكلم الطيب   ) [ فاطر : 10 ] ، والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشره بقبول طاعته وأعماله ، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه ، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها . 
الطريق الثاني : وهو قول من قال لا بد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير ، قالوا إن قوله : ( ورافعك إلي ) يقتضي أنه رفعه حيا ، والواو لا تقتضي الترتيب ، فلم يبق إلا أن يقول : فيها تقديم وتأخير ، والمعنى : أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن . 
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر ، والله أعلم . 
والمشبهة يتمسكون بهذه الآية في 
إثبات المكان لله تعالى ، وأنه في السماء ، وقد دللنا في المواضع الكثيرة من هذا الكتاب بالدلائل القاطعة على أنه يمتنع كونه تعالى في المكان فوجب حمل اللفظ على التأويل ، وهو من وجوه : 
الوجه الأول : أن المراد إلى محل كرامتي ، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم ومثله قوله : ( 
إني ذاهب إلى ربي   ) [ الصافات : 99 ] ، وإنما ذهب 
إبراهيم    - صلى الله عليه وسلم - من 
العراق  إلى 
الشام  ، وقد يقول السلطان : ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي ، وقد يسمى الحجاج زوار الله ، ويسمى المجاورون جيران الله ، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم فكذا هاهنا . 
الوجه الثاني : في التأويل أن يكون قوله : ( ورافعك إلي ) معناه أنه يرفع إلى مكان لا يملك الحكم عليه فيه غير الله ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلق أنواع الحكام فأما السماوات فلا حاكم هناك في الحقيقة وفي الظاهر إلا الله . 
الوجه الثالث : أن بتقدير القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع 
عيسى  إلى ذلك سببا لانتفاعه وفرحه ، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبه من الثواب والروح والراحة والريحان ، فعلى كلا القولين لا بد من حمل اللفظ على أن المراد : ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك ، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يبق في الآية دلالة على إثبات المكان لله تعالى . 
الصفة الثالثة 
من صفات عيسى    : قوله تعالى : ( 
ومطهرك من الذين كفروا   ) والمعنى مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم ، وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى . 
الصفة الرابعة : قوله ( 
وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة   ) وجهان : 
الأول : أن المعنى : الذين اتبعوا دين 
عيسى  يكونون فوق الذين كفروا به ، وهم 
اليهود  بالقهر والسلطان والاستعلاء إلى يوم القيامة ، فيكون ذلك إخبارا عن ذل 
اليهود  وأنهم يكونون مقهورين إلى يوم القيامة ، فأما الذين اتبعوا 
المسيح    - عليه السلام - فهم الذين كانوا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله ، وأما بعد الإسلام فهم المسلمون ، وأما  
[ ص: 62 ] النصارى  فهم وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم يخالفونه أشد المخالفة من حيث إن صريح العقل يشهد أنه - عليه السلام - ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجهال ، ومع ذلك فإنا نرى أن دولة 
النصارى  في الدنيا أعظم وأقوى من أمر 
اليهود  ، فلا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكا يهوديا ولا بلدة مملوءة من 
اليهود  بل يكونون أين كانوا بالذلة ، وأما 
النصارى  فأمرهم بخلاف ذلك . 
الثاني : أن المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والدليل . 
واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله : ( ورافعك إلي ) هو الرفعة بالدرجة والمنقبة ، لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة .