صفحة جزء
وأما قوله تعالى : ( لما آتيتكم من كتاب وحكمة ) ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ الجمهور " لما " بفتح اللام ، وقرأ حمزة بكسر اللام ، وقرأ سعيد بن جبير " لما " مشددة ، أما القراءة بالفتح فلها وجهان :

الأول : أن " ما " اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله : ( لتؤمنن به ) ، والتقدير : للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، وعلى هذا التقدير " ما " رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة " ما " وهو صلتها محذوف ، والتقدير : لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ) [ الفرقان : 41 ] وعليه سؤالان :

السؤال الأول : إذا كانت " ما " موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ، ألا ترى أنك لو قلت : الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز .

وقوله ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ) ليس فيه راجع إلى الموصول ، قلنا : يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ) [ يوسف : 90 ] ، ولم يقل : فإن الله لا يضيع أجره ، وقال : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [ الكهف : 30 ] ، ولم يقل : إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا هاهنا .

السؤال الثاني : ما فائدة اللام في قوله : ( لما ) ، قلنا : هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك : لزيد أفضل من عمرو ، ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه ؛ لأن قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم ، وهذه اللام المتلقية للقسم ، فهذا تقرير هذا الكلام .

الوجه الثاني : وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن " ما " هاهنا هي المتضمنة لمعنى الشرط ، والتقدير : ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ، فاللام في قوله : ( لتؤمنن به ) هي المتلقية للقسم ، أما اللام في " لما " هي لام تحذف تارة ، وتذكر أخرى ، ولا يتفاوت المعنى ، ونظيره قولك : والله لو أن فعلت ، فعلت ، فلفظة " أن " لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا هاهنا ، وعلى هذا التقدير كانت " ما " في موضع نصب بآتيتكم " وجاءكم " جزم بالعطف على " آتيتكم " ، و " لتؤمنن به " هو الجزاء ، وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول؛ لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر ، وأما الوجه في قراءة " لما " بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل : أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل " وما " على هذه القراءة تكون موصولة . وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول ، وأما قراءة " لما " بالتشديد ، فذكر صاحب " الكشاف " فيه وجهين :

الأول : أن المعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق له ، وجب عليكم الإيمان به ونصرته . والثاني : أن أصل " لما " لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات ، وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت " لما " ، ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى .

[ ص: 104 ]

المسألة الثانية : قرأ نافع " آتيناكم " بالنون على التفخيم ، والباقون بالتاء على التوحيد ، حجة نافع قوله : ( وآتينا داود زبورا ) [ النساء : 163 ] ( وآتيناه الحكم صبيا ) [ مريم : 12 ] ( وآتيناهما الكتاب المستبين ) [ الصافات : 117 ] ، ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع ، وهذا الموضع يليق به هذا المعنى ، وحجة الجمهور قوله : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ) [ الحديد : 9 ] ، و ( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ) [ الكهف : 1 ] ، وأيضا هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها ؛ لأنه تعالى قال قبل هذه الآية : ( وإذ أخذ الله ) ، وقال بعدها ( إصري ) ، وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ، ومن الجمع إلى الواحد ، قال تعالى : ( وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ) [ الإسراء : 2 ] ، ولم يقل من دوننا كما قال ( وجعلناه ) والله أعلم .

المسألة الثالثة : أنه تعالى ذكر النبيين على سبيل المغايبة ، ثم قال : ( آتيتكم ) وهو مخاطبة إضمار ، والتقدير : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، والإضمار باب واسع في القرآن ، ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضمارا آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين ، فقال : تقدير الآية : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه ؛ لأن لام القسم إنما يقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصارا ، ثم قال تعالى بعده : ( ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ) ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم ( لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكلف تلك التعسفات ، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار ، فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظما بينا جليا أولى من تلك التكلفات .

المسألة الرابعة : في قوله : ( لما آتيتكم من كتاب ) إشكال ، وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم ، فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب ، وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم ، فالإشكال أظهر ، والجواب عنه من وجهين :

الأول : أن جميع الأنبياء - عليهم السلام - أوتوا الكتاب ، بمعنى كونه مهتديا به داعيا إلى العمل به ، وإن لم ينزل عليه .

والثاني : أن أشرف الأنبياء - عليهم السلام - هم الذين أوتوا الكتاب ، فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع .

المسألة الخامسة : الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها .

المسألة السادسة : كلمة " من " في قوله ( من كتاب ) دخلت تبيينا لما كقولك : ما عندي من الورق دانقان .

التالي السابق


الخدمات العلمية