صفحة جزء
أما قوله : ( لتؤمنن به ولتنصرنه ) ، فالمعنى ظاهر ، وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولا ، ثم الاشتغال بنصرته ثانيا ، واللام في ( لتؤمنن به ) لام القسم ، كأنه قيل : والله لتؤمنن به .

ثم قال تعالى : ( قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : إن فسرنا قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى : ( أأقررتم ) معناه : قال الله تعالى للنبيين أأقررتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله : ( قال أأقررتم ) أي قال كل نبي لأمته أأقررتم ، وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه ، وإن كان النبيون أخذوه على الأمم ، فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده ، فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول ، وأكدوا ذلك بالإشهاد .

المسألة الثانية : الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر ، إذا ثبت ولزم مكانه ، وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته .

أما قوله تعالى : ( أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ) أي قبلتم عهدي ، والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام ، قال تعالى : ( ولا يؤخذ منها عدل ) [ البقرة : 48 ] أي يقبل منها فدية ، وقال : ( ويأخذ الصدقات ) [ التوبة : 104 ] أي [ ص: 106 ] يقبلها ، والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل ، قال تعالى : ( ولا تحمل علينا إصرا ) [ البقرة : 286 ] ، فسمى العهد إصرا لهذا المعنى ، قال صاحب " الكشاف " : سمي العهد إصرا ؛ لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ، ومنه الإصار الذي يعقد به ، وقرئ ( إصري ) ويجوز أن يكون لغة في إصر .

ثم قال تعالى : ( قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ، وفي تفسير قوله : ( فاشهدوا ) وجوه :

الأول : فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار ، وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضا ( من الشاهدين ) ، وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . الثاني : أن قوله ( فاشهدوا ) خطاب للملائكة . الثالث : أن قوله : ( فاشهدوا ) أي ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه ، ونظيره قوله : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) [ الأعراف : 172 ] على أنفسنا ، وهذا من باب المبالغة .

الرابع : ( فاشهدوا ) أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام ، لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى . الخامس : ( فاشهدوا ) أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق ، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له .

السادس : إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم ، فقوله : ( فاشهدوا ) خطاب للأنبياء - عليهم السلام - بأن يكونوا شاهدين عليهم .

وأما قوله تعالى : ( وأنا معكم من الشاهدين ) فهو للتأكيد وتقوية الإلزام ، وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره ، فليس محتاجا إلى ذلك الإشهاد ؛ لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة ؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ، ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيدا آخر ، فقال : ( فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ، ووعيد الفاسق معلوم ، وقوله : ( فمن تولى بعد ذلك ) هذا شرط ، والفعل الماضي ينقلب مستقبلا في الشرط والجزاء ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية