صفحة جزء
المسألة الثانية : اعلم أن قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) يحتمل أن يكون المراد كونه أولا في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولا في كونه مباركا وهدى فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان . الأول : أنه أول في البناء والوضع ، والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال . أحدها : ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في " البسيط " بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين ، وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى ، وروي أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى بعث ملائكته فقال : ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور ، وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور ، وهذا كان قبل خلق آدم " .

وأيضا ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ، ومجاهد والسدي : أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته ، قال القفال في " تفسيره " : روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال : وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام " أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر ، وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين ، وحققتها بسبعة أملاك حنفاء " . وثانيها : أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة ، فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها ، وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام ، فلما أرسل الله [ ص: 126 ] تعالى الطوفان ، رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة ، يتعبد عنده الملائكة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة ، وبقي مختفيا إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت ، وأمره بعمارته ، فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام .

واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام ، وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه . الأول : أن تكليف الصلاة كان لازما في دين جميع الأنبياء عليهم السلام ، بدليل قوله تعالى في سورة مريم : ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) [ مريم : 58 ] فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله ، والسجدة لا بد لها من قبلة ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ) فوجب أن يقال : إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة ، فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة مكرمة . الثاني : أن الله تعالى سمى مكة أم القرى ، وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة . الثالث : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة : " ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر " وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة . الرابع : أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت موجودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام .

واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه . الأول : ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة " وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ، ولقائل أن يقول : لا يبعد أن يقال البيت كان موجودا قبل إبراهيم وما كان محرما ثم حرمه إبراهيم عليه السلام . الثاني : تمسكوا بقوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) [ البقرة : 127 ] ، ولقائل أن يقول : لعل البيت كان موجودا قبل ذلك ثم انهدم ، ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار . الثالث : قال القاضي : إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد ، وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ، ويكون شرف تلك الجهة باقيا بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها ، وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول : لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء ، وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة ، فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها ، فهذا جملة ما في هذا القول :

القول الثاني : أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولا في كونه مباركا وهدى للخلق . روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس ، فقال عليه الصلاة والسلام : " المسجد الحرام ثم بيت المقدس " فقيل : كم بينهما ؟ قال : " أربعون سنة " وعن علي رضي الله عنه أن رجلا قال له : أهو أول بيت ؟ قال : لا ، قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة ، أول من بناه إبراهيم ، [ ص: 127 ] ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبناه العمالقة ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش .

واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه ، لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة ، لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ، ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود ، إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء ، وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية