ثم قال تعالى : ( 
للذي ببكة   ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : لا شك أن المراد من ( 
بكة    ) هو 
مكة  ثم اختلفوا فمنهم من قال 
  : بكة  ومكة  اسمان لمسمى واحد ، فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال : هذه ضربة لازم ، وضربة لازب ، ويقال : هذا دائم ودائب ، ويقال : راتب وراتم ، ويقال : سمد رأسه ، وسبده ، وفي اشتقاق 
بكة  وجهان . الأول : أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضا ، يقال : بكه يبكه بكا إذا دفعه وزحمه ، وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال 
 nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير    : سميت 
مكة  بكة  لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف ، وهو قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=11958محمد بن علي الباقر   nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد  وقتادة  ، قال بعضهم : رأيت 
 nindex.php?page=showalam&ids=11958محمد بن علي الباقر  يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت 
بكة  لأنه يبك بعضهم بعضا ، تمر المرأة بين   
[ ص: 129 ] يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان . 
الوجه الثاني : 
سميت بكة  لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال 
قطرب    : تقول العرب بككت عنقه أبكه بكا إذا وضعت منه ورددت نخوته . 
وأما 
مكة  ففي اشتقاقها وجوه . الأول : أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها ، من قولك : امتك الفصيل ضرع أمه ، إذا امتص ما فيه . الثاني : سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض ، يقال امتك الفصيل ، إذا استقصى ما في الضرع ، ويقال تمككت العظم ، إذا استقصيت ما فيه . الثالث : سميت 
مكة  ، لقلة مائها ، كأن أرضها امتكت ماءها . الرابع : قيل : إن 
مكة  وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحت 
مكة  ، فالأرض كلها تمك من ماء 
مكة  ، ومن الناس من فرق بين 
مكة  وبكة  ، فقال بعضهم : إن 
بكة  اسم للمسجد خاصة ، وأما 
مكة  ، فهو اسم لكل البلد ، قالوا : والدليل عليه أن اشتقاق 
بكة  من الازدحام والمدافعة ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف ، لا في سائر المواضع ، وقال الأكثرون : 
مكة  اسم للمسجد والمطاف . 
وبكة  اسم البلد ، والدليل عليه أن قوله تعالى : ( 
للناس للذي ببكة   ) يدل على أن البيت حاصل في 
بكة  ومظروف في 
بكة  فلو كان 
بكة  اسما للبيت لبطل كون 
بكة  ظرفا للبيت ، أما إذا جعلنا 
بكة  اسما للبلد ، استقام هذا الكلام . 
المسألة الثانية 
  : لمكة  أسماء كثيرة ، قال 
القفال  رحمه الله في " تفسيره " : 
مكة  وبكة  وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها ، 
وأم القرى  قال تعالى : ( 
لتنذر أم القرى ومن حولها   ) [ الشورى : 7 ] وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض . 
المسألة الثالثة 
  : للكعبة  أسماء   . أحدها : 
الكعبة  قال تعالى : ( 
جعل الله الكعبة البيت الحرام   ) [ المائدة : 97 ] والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعبا لإشرافه وارتفاعه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعبا لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زمانا وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم . وثانيها : 
البيت العتيق    : قال تعالى : ( 
ثم محلها إلى البيت العتيق   ) [ الحج : 33 ] ، وقال : ( 
وليطوفوا بالبيت العتيق   ) [ الحج : 29 ] وفي اشتقاقه وجوه . الأول : العتيق هو القديم ، وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء . والثاني : أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء . الثالث : من عتق الطائر إذا قوي في وكره ، فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تخريبه أهلكه الله سمي عتيقا . الرابع : أن الله أعتقه من أن يكون ملكا لأحد من المخلوقين . الخامس : أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار . وسادسها : 
المسجد الحرام  قال سبحانه : ( 
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى   ) [ الإسراء : 1 ] والمراد من كونه حراما سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية . 
فإن قال قائل : كيف الجمع بين قوله : ( 
إن أول بيت وضع للناس   ) وبين قوله : ( 
وطهر بيتي للطائفين   ) [ الحج : 26 ] فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس .  
[ ص: 130 ] والجواب : كأنه قيل : البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم .