صفحة جزء
وقوله : ( مقام إبراهيم ) لا تعلق له بقوله : ( فيه آيات بينات ) فكأنه تعالى قال : ( فيه آيات بينات ) ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه ، لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم .

القول الثاني : أن تفسير الآيات مذكور ، وهو قوله : ( مقام إبراهيم ) أي : هي مقام إبراهيم .

فإن قيل : الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد ، أجابوا عنه من وجوه . الأول : أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة ، لأن ما كان معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته وكونه غنيا منزها مقدسا عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئا واحدا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله : ( إن إبراهيم كان أمة قانتا ) [ النحل : 120 ] . الثاني : أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام ، وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين ، فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة . الثالث : قال الزجاج : إن قوله : ( ومن دخله كان آمنا ) من بقية تفسير الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين ، قال تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) [ التحريم : 4 ] وقال عليه السلام : " الاثنان فما فوقهما جماعة " ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمنا ، وأن لله على الناس حجه ، ثم حذف ( أن ) اختصارا ، كما في قوله : ( قل أمر ربي بالقسط ) [ الأعراف : 29 ] أي أمر ربي بأن تقسطوا . الرابع : يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما . الخامس : قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة : ( آية بينة ) على التوحيد . السادس : قال المبرد : ( مقام ) مصدر فلم يجمع كما قال : ( وعلى سمعهم ) [ البقرة : 7 ] والمراد مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال : ( ومن يعظم شعائر الله ) [ الحج : 32 ] .

[ ص: 132 ] ثم قال تعالى : ( مقام إبراهيم ) وفيه أقوال . أحدها : أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه . والثاني : أنه جاء زائرا من الشام إلى مكة ، وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع ، فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى نغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانب الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه . والثالث : أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج ، قال القفال رحمه الله : ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها .

ثم قال تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) ولهذه الآية نظائر : منها قوله تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) [ البقرة : 125 ] وقوله : ( أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ) [ العنكبوت : 67 ] وقال إبراهيم : ( رب اجعل هذا بلدا آمنا ) [ البقرة : 126 ] وقال تعالى : ( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) [ قريش : 4 ] قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله : ( إن أول بيت وضع للناس ) موجودة في الحرم ثم قال : ( ومن دخله كان آمنا ) وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفى القصاص منه في الحرم ، وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفى منه القصاص في الحرم ؟ قال الشافعي : يستوفى ، وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج ثم يستوفى منه القصاص ، والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ) واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية ، فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمنا ، ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمنا فيقع الخلف في الخبر ، فوجب حمله على الأمر ، ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل ، وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم ، لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية .

والجواب : أن قوله : ( كان آمنا ) إثبات لمسمى الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه . الأول : أن من دخله للنسك تقربا إلى الله تعالى كان آمنا من النار يوم القيامة ، قال النبي عليه السلام : " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " وقال أيضا : " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام " وقال : " من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " . والثاني : يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعا على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقا وهذا أولى مما قالوه لوجهين : الأول : أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائما مقام الأمر وهم جعلوه قائما مقام الأمر . والثاني : أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوما للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة .

الوجه الثالث : في تأويل الآية : أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى الله عليه وسلم كان آمنا لأنه تعالى [ ص: 133 ] قال : ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) [ الفتح : 27 ] الرابع : قال الضحاك : من حج حجة كان آمنا من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك .

واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد ، وهو أن قوله : ( كان آمنا ) حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه ، ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص ، وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية