صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية ، أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى : ( إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه ، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم ، فوقعت بينهما العداوة ، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم ، فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضا ويبغض بعضهم بعضا ، فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخوانا متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله : ونظير هذه الآية قوله : ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) [ الأنفال : 63 ] .

واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معاديا لأكثر الخلق ، ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معاديا لأحد ، والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيرا في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحدا ، ولهذا قيل : إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحا لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر .

المسألة الثانية : قال الزجاج : أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ، ولا يخفي عنه شيئا وقال أبو حاتم : قال أهل البصرة : الإخوة في النسب والإخوان في الصداقة ، قال : وهذا غلط ، قال الله تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) [ الحجرات : 10 ] ولم يعن النسب ، وقال : ( أو بيوت إخوانكم ) [ النور : 61 ] وهذا في النسب .

المسألة الثالثة : قوله : ( فأصبحتم بنعمته إخوانا ) يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله ، لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل ، وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال ، قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف .

[ ص: 144 ] قلنا : كل هذا كان حاصلا في زمان حصول المحاربات والمقاتلات ، فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم .

التالي السابق


الخدمات العلمية