صفحة جزء
ثم قال : ( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم ) وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : أنه تعالى ذكر القسمين أولا فقال : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) فقدم البياض على السواد في اللفظ ، ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد ، وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض .

والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب . وثانيها : أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن رب العزة سبحانه : " خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم " وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض ، لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن ، ثم ختم بذكرهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : " سبقت رحمتي غضبي " . وثالثها : أن الفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئا يسر الطبع ويشرح الصدر ، ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم .

السؤال الثاني : أين جواب ( أما ) ؟

والجواب : هو محذوف ، والتقدير فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ، وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) [ الرعد : 23 ، 24 ] وقال : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) [ البقرة : 127 ] وقال : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا ) [ السجدة : 12 ] .

السؤال الثالث : من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ؟

والجواب : للمفسرين فيه أقوال . أحدها : قال أبي بن كعب : الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام ، فكل من كفر في الدنيا ، فقد كفر بعد الإيمان ، ورواه الواحدي في " البسيط " بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم . وثانيها : أن المراد : أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوة ، والدليل على صحة هذا التأويل ، قوله تعالى فيما قبل هذه الآية : ( ياأهل الكتاب لم ) [ ص: 151 ] ( تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ) [ آل عمران : 70 ] فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات ، وقال للمؤمنين : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) .

ثم قال هاهنا : ( أكفرتم بعد إيمانكم ) فكان ذلك محمولا على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها ، وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار ، وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه . الأول : قال عكرمة والأصم والزجاج : المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مؤمنين به ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كفروا به . الثاني : قال قتادة : المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد . الثالث : قال الحسن : الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق . الرابع : قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة . الخامس : قيل هم الخوارج ، فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم : " إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية ، ولأنه تخصيص لغير دليل ، ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة .

السؤال الرابع : ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله : ( أكفرتم ) ؟

الجواب : هذا استفهام بمعنى الإنكار ، وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله : ( قل ياأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل ياأهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله ) [ آل عمران : 98 ] .

ثم قال تعالى : ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) .

وفيه فوائد . الأولى : أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصا بمن كفر بعد إيمانه ، فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافرا أصليا . الثانية : قال القاضي قوله : ( أكفرتم بعد إيمانكم ) يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله : ( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . الثالثة : قالت المرجئة : الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللا بالكفر ، وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر .

التالي السابق


الخدمات العلمية