صفحة جزء
المسألة الثانية : قال الجبائي : هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئا من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده ، ولا يفعل شيئا من ذلك ، وبيانه : وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى ، أو من العبد ، وبتقدير صدوره من العبد ، فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره ، فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة ، وقوله تعالى : ( وما الله يريد ظلما للعالمين ) نكرة في سياق النفي ، فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما ، سواء كان ذلك صادرا عنه أو صادرا عن غيره ، فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئا من هذه الأقسام الثلاثة ، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلا لشيء من هذه الأقسام ، ويلزم منه أن لا يكون فاعلا للظلم أصلا ويلزم أن لا يكون فاعلا لأعمال العباد ، لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضا ، وإنما قلنا : إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها ، ولو كان فاعلا لشيء من أقسام الظلم لكان مريدا لها ، وقد بطل ذلك ، قالوا : فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم ، وغير فاعل لأعمال العباد ، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ، ثم قالوا : إنه [ ص: 153 ] تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك ، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له ، فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادرا على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا : هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل ، ثم قالوا : ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور ) وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين : الأول : أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل ، أو العجز ، أو الحاجة ، وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض ، وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة ، وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلا للقبيح . والثاني : أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول : إنا نشاهد وجود الظلم في العالم ، فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته ، فيلزم كونه ضعيفا عاجزا مغلوبا وذلك محال .

فأجاب الله تعالى عنه بقوله : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر ، ولما كان قادرا على ذلك خرج عن كونه عاجزا ضعيفا لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختيارا وطوعا ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة ، فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية ، وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر ، فقالوا : المراد من قوله : ( وما الله يريد ظلما للعالمين ) إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضا فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم ، لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلما بل كان عادلا ، لأن الظلم تصرف في ملك الغير ، وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالما وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق ، وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضا ، فهذا أيضا لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم ، فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح . والجواب : لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحدا من عباده ؟ قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا : الكلام عليه من وجهين . الأول : أنه تعالى تمدح بقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) [ البقرة : 255 ] وبقوله : ( وهو يطعم ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا هاهنا . الثاني : أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقا للعذاب فهو وإن لم يكن ظلما في نفسه لكنه في صور الظلم ، وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية