صفحة جزء
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )

قوله تعالى : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )

اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : ( قد خلت من قبلكم سنن ) وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي : أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية ، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع ، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه :

الأول : أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه ، والسن الصب للماء ، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد ، والسنة فعلة بمعنى مفعول .

وثانيها : أن تكون [ ص: 11 ] من : سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن ، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة على معنى أنه مسنون .

وثالثها : أن يكون من قولهم : سن الإبل إذا أحسن الرعي ، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وإدامته .

المسألة الثانية : المراد من الآية : قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة ، واختلفوا في ذلك ، فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى : ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله والإعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه ، وقال مجاهد : بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ؛ فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال : ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر ، وأيضا يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) [الصافات : 173] وقوله : ( والعاقبة للمتقين ) [الأعراف : 128] وقوله : ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) [الأنبياء : 105] .

المسألة الثالثة : ليس المراد بقوله ( فسيروا في الأرض فانظروا ) [النحل : 36] الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :


إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار



التالي السابق


الخدمات العلمية