ثم إنه تعالى قال : ( 
يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك   ) . 
واعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : هل لنا من الأمر من شيء ، وهذا الكلام محتمل ، فلعل قائله كان من المؤمنين المحقين ، وكان غرضه منه إظهار الشفقة ، وإنه متى يكون الفرج ؟ ومن أين تحصل النصرة ؟ ولعله كان من المنافقين ، وإنما قاله طعنا في نبوة 
محمد  صلى الله عليه وسلم وفي الإسلام فبين تعالى في هذه الآية أن غرض هؤلاء من هذا الكلام هذا القسم الثاني ، والفائدة في هذا التنبيه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متحرزا عن مكرهم وكيدهم . 
النوع الثالث : من الأشياء التي حكى الله عن المنافقين ، قولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . وفيه إشكال ، وهو أن لقائل أن يقول : ما الفرق بين هذا الكلام وبين ما تقدم من قوله : ( 
هل لنا من الأمر من شيء   ) ويمكن أن يجاب عنه من وجهين : 
الأول : أنه تعالى لما حكى عنهم قولهم : ( 
هل لنا من الأمر من شيء   ) فأجاب عنه بقوله : ( 
الأمر كله لله   ) واحتج المنافقون على الطعن في هذا الجواب بقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء لما خرجنا من 
المدينة  وما قتلنا هاهنا ، فهذا يدل على أنه ليس الأمر كما قلتم من أن الأمر كله لله ، وهذا هو بعينه المناظرة الدائرة بين أهل السنة وأهل الاعتزال فإن السني يقول : 
الأمر كله في الطاعة والمعصية والإيمان والكفر بيد الله ، فيقول المعتزلي : ليس الأمر كذلك ، فإن الإنسان مختار مستقل بالفعل ، إن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، فعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جوابا عن الشبهة الأولى . 
والوجه الثاني : أن يكون المراد من قوله : ( 
هل لنا من الأمر من شيء   ) هو أنه هل لنا من النصرة التي وعدنا بها 
محمد  شيء ، ويكون المراد من قوله : ( 
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا   ) هو ما كان يقوله 
عبد الله بن أبي  من أن 
محمدا  لو أطاعني وما خرج من 
المدينة  ما قتلنا هاهنا . 
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من ثلاثة أوجه : 
الوجه الأول من الجواب : قوله : ( 
قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم   ) والمعنى أن 
الحذر لا يدفع القدر ، والتدبير لا يقاوم التقدير ، فالذين قدر الله عليهم القتل لا بد وأن يقتلوا على جميع التقديرات ؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه يقتل ، فلو لم يقتل لانقلب علمه جهلا ؛ وقد بينا أيضا أنه ممكن   
[ ص: 41 ] فلا بد من انتهائه إلى إيجاد الله تعالى ، فلو لم يجد لانقلبت قدرته عجزا ، وكل ذلك محال ، ومما يدل على تحقيق الوجوب كما قررنا قوله : ( 
الذين كتب عليهم القتل   ) وهذه الكلمة تفيد الوجوب ، فإن هذه الكلمة في قوله : ( 
كتب عليكم الصيام   ) ( 
كتب عليكم القصاص   ) [البقرة : 178] تفيد وجوب الفعل ، وهاهنا لا يمكن حملها على وجوب الفعل ، فوجب حملها على وجوب الوجود وهذا كلام في غاية الظهور لمن أيده الله بالتوفيق ، ثم نقول : للمفسرين فيه قولان : 
الأول : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم القتل إلى مضاجعهم ومصارعهم حتى يوجد ما علم الله أنه يوجد . 
والثاني : كأنه قيل للمنافقين لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم . 
الوجه الثاني في الجواب عن تلك الشبهة : قوله : ( 
وليبتلي الله ما في صدوركم   ) وذلك لأن القوم زعموا أن الخروج إلى تلك المقاتلة كان مفسدة ، ولو كان الأمر إليهم لما خرجوا إليها ، فقال تعالى : بل هذه المقاتلة مشتملة على نوعين من المصلحة : أن يتميز الموافق من المنافق ، وفي المثل المشهور : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين ، ومعنى الابتلاء في حق الله تعالى قد مر تفسيره مرارا كثيرة . 
فإن قيل : لم ذكر الابتلاء وقد سبق ذكره في قوله : ( 
ثم صرفكم عنهم ليبتليكم   ) . 
قلنا : لما طال الكلام أعاد ذكره ، وقيل : الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والثاني سائر الأحوال . 
والوجه الثالث في الجواب : قوله : ( 
وليمحص ما في قلوبكم   ) وفيه وجهان : 
أحدهما : أن هذه الواقعة تمحص قلوبكم عن الوساوس والشبهات . 
والثاني : أنها تصير كفارة لذنوبكم فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات ، وذكر في الابتلاء الصدور ، وفي التمحيص القلوب ، وفيه بحث ثم قال : ( 
والله عليم بذات الصدور   ) . 
واعلم أن ذات الصدور هي الأشياء الموجودة في الصدور ، وهي الأسرار والضمائر ، وهي ذات الصدور ؛ لأنها حالة فيها مصاحبة لها ، وصاحب الشيء ذوه وصاحبته ذاته ، وإنما ذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يخفى عليه ما في الصدور ، أو غير ذلك ؛ لأنه عالم بجميع المعلومات وإنما ابتلاهم إما لمحض الإلهية ، أو للاستصلاح .