صفحة جزء
( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد )

قال تعالى : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) .

اعلم أن في كيفية النظم وجهين :

الأول : أنه تعالى لما أمر المكلفين في هذه الآيات ببذل النفس [ ص: 95 ] وبذل المال في سبيل الله وبالغ في تقرير ذلك ، شرع بعد ذلك في حكاية شبهات القوم في الطعن في نبوته .

فالشبهة الأولى : أنه تعالى لما أمر بإنفاق الأموال في سبيله قالت الكفار : إنه تعالى لو طلب الإنفاق في تحصيل مطلوبه لكان فقيرا عاجزا ، لأن الذي يطلب المال من غيره يكون فقيرا ، ولما كان الفقر على الله تعالى محالا ، كان كونه طالبا للمال من عبيده محالا ، وذلك يدل على أن محمدا كاذب في إسناد هذا الطلب إلى الله تعالى .

الوجه الثاني في طريق النظم : أن أمة موسى عليه السلام كانوا إذا أرادوا التقرب بأموالهم إلى الله تعالى ، فكانت تجيء نار من السماء فتحرقها ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم بذل الأموال في سبيل الله قالوا له لو كنت نبيا لما طلبت الأموال لهذا الغرض ، فإنه تعالى ليس بفقير حتى يحتاج في إصلاح دينه إلى أموالنا ، بل لو كنت نبيا لكنت تطلب أموالنا لأجل أن تجيئها نار من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لست بنبي ، فهذا هو وجه النظم ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه يبعد من العاقل أن يقول إن الله فقير ونحن أغنياء ، بل الإنسان إنما يذكر ذلك إما على سبيل الاستهزاء أو على سبيل الإلزام ، وأكثر الروايات أن هذا القول إنما صدر عن اليهود . روي أنه صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا ، فقال فنحاص اليهودي : إن الله فقير حتى سألنا القرض ، فلطمه أبو بكر في وجهه وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك ، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله ، فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله عنه . وقال آخرون : لما أنزل الله تعالى ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : نرى إله محمد يستقرض منا ، فنحن إذن أغنياء وهو فقير ، وهو ينهانا عن الربا ثم يعطينا الربا ، وأرادوا قوله : ( فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) .

واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل ، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه :

أحدها : أن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة ; يعنون أنه بخيل بالعطاء ، وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في هذه الآية .

وثانيها : ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر .

وثالثها : أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير .

والوجه الرابع : أن موسى عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . فموسى عليه السلام لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا : لما كان الإله قادرا فأي حاجة به إلى جهادنا ، وكذا ههنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا : لما كان الإله غنيا فأي حاجة به إلى أموالنا . فكان إسنادهم هذه الشبهة إلى اليهود لائقا من هذا الوجه ، وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك . والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، يعني لو صدق محمد في أن الإله يطلب المال من عبيده لكان [ ص: 96 ] فقيرا ، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الإخبار ، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية ، فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية