صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة ؛ لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم . والسعادة بلا خوف الانقطاع ، وكذا القول في جانب العقاب فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه .

ثم قال تعالى : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) الزحزحة التنحية والإبعاد ، وهو تكرير الزح ، والزح هو الجذب بعجلة ، وهذا تنبيه على أن الإنسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار ، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " الدنيا سجن المؤمن " .

واعلم أنه لا مقصود للإنسان وراء هذين الأمرين ، الخلاص عن العذاب ، والوصول إلى الثواب ، فبين تعالى أن من وصل إلى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " وقرأ قوله تعالى : ( فمن [ ص: 103 ]

زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) وقال عليه الصلاة والسلام : " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .

ثم قال : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) الغرور مصدر من قولك : غررت فلانا غرورا ، شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس الغرور ، وعن سعيد بن جبير : أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما من طلب الآخرة بها فإنها نعم المتاع ، والله أعلم .

واعلم أن فساد الدنيا من وجوه :

أولها : أنه لو حصل للإنسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره ، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا .

وثانيها : أن الإنسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ، وكلما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد ، فإن الإنسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك ، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته .

وثالثها : أن الإنسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور ، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال : لين مسها قاتل سمها . وقال بعضهم : الدنيا ظاهرها مطية السرور ، وباطنها مطية الشرور .

التالي السابق


الخدمات العلمية