صفحة جزء
[ ص: 136 ] ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا ) .

قوله تعالى ( وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا )

اعلم أنه لما افتتح السورة بذكر ما يدل على أنه يجب على العبد أن يكون منقادا لتكاليف الله سبحانه ، محترزا عن مساخطه ، شرع بعد ذلك في شرح أقسام التكاليف .

فالنوع الأول : ما يتعلق بأموال اليتامى ، وهو هذه الآية ، وأيضا أنه تعالى وصى في الآية السابقة بالأرحام ، فكذلك في هذه الآية وصى بالأيتام ، لأنهم قد صاروا بحيث لا كافل لهم ولا مشفق شديد الإشفاق عليهم ، ففارق حالهم حال من له رحم ماسة عاطفة عليه لمكان الولادة أو لمكان الرحم فقال : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : اليتامى الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم ، واليتم الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة ، وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء ، وفي البهائم من قبل الأمهات . قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء الانفراد عن الآباء ، إلا أن في العرف اختص هذا الاسم بمن لم يبلغ مبلغ الرجال ، فإذا صار بحيث يستغني بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره ، زال عنه هذا الاسم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبي طالب ، إما على القياس ، وإما على حكاية الحال التي كان عليها حين كان صغيرا ناشئا في حجر عمه توضيعا له . وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يتم بعد حلم " فهو تعليم الشريعة لا تعليم اللغة ، يعني إذا احتلم فإنه لا تجري عليه أحكام الصغار . وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه ؟ فكتب إليه : إذا أونس منه الرشد انقطع يتمه ، وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد ، فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يؤنس منه الرشد ، ثم قال أبو بكر : واسم اليتيم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تستأمر اليتيمة " وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة ، قال الشاعر :


إن القبور تنكح الأيامى النسوة الأرامل اليتامى



فالحاصل من كل ما ذكرنا أن اسم اليتيم بحسب أصل اللغة يتناول الصغير والكبير ، إلا أنه بحسب العرف مختص بالصغير .

المسألة الثانية : ههنا سؤال وهو أن يقال : كيف جمع اليتيم على يتامى ؟ واليتيم فعيل ، والفعيل يجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى وجريح وجرحى ؟

قال صاحب " الكشاف " : فيه وجهان :

أحدهما : أن يقال : جمع اليتيم يتمى ، ثم يجمع فعلى على فعالى ، كأسير وأسرى وأسارى .

والثاني : أن يقال : جمع يتيم يتائم ؛ لأن اليتيم جار مجرى الأسماء نحو صاحب وفارس ، ثم يقلب اليتائم يتامى . قال [ ص: 137 ] القفال رحمه الله : ويجوز يتيم ويتامى ، كنديم وندامى ، ويجوز أيضا يتيم وأيتام كشريف وأشراف .

المسألة الثالثة : ههنا سؤال ثان : وهو أنا ذكرنا أن اسم اليتيم مختص بالصغير ، فما دام يتيما لا يجوز دفع ماله إليه ، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما ، فكيف قال : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) ؟

والجواب عنه على طريقين :

الأول : أن نقول : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا ، ثم فيه وجهان :

أحدهما : أنه تعالى سماهم يتامى على مقتضى أصل اللغة .

والثاني : أنه تعالى سماهم باليتامى لقرب عهدهم باليتم وإن كان قد زال في هذا الوقت كقوله تعالى : ( فألقي السحرة ساجدين ) [ الشعراء : 46 ] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود ، وأيضا سمى الله تعالى مقاربة انقضاء العدة ، بلوغ الأجل في قوله : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن ) [ الطلاق : 2 ] والمعنى مقاربة البلوغ ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ) [ النساء : 6 ] والإشهاد لا يصح قبل البلوغ وإنما يصح بعد البلوغ .

الطريق الثاني : أن نقول : المراد باليتامى الصغار ، وعلى هذا الطريق ففي الآية وجهان :

أحدهما : أن قوله : ( وآتوا ) أمر ، والأمر إنما يتناول المستقبل ، فكان المعنى أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم ، وعلى هذا الوجه زالت المناقضة .

والثاني : المراد : وآتوا اليتامى حال كونهم يتامى ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه أنه كان يجوز أن يظن أنه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال كونه صغيرا ، فأباح الله تعالى ذلك . وفيه إشكال وهو أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، فلما أوجب إيتاءهم كل أموالهم سقط ذلك .

المسألة الرابعة : نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : 220 ] قال أبو بكر الرازي : وأظن أنه غلط من الراوي ، لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم بعد البلوغ ، وإنما غلط الراوي بآية أخرى ، وهو ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه ما قال : لما أنزل الله ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) [ الأنعام : 152 ] و ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ النساء : 10 ] ذهب من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فاشتد ذلك على اليتامى ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) [ البقرة : 220 ] فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .

قال المفسرون : الصحيح أنها نزلت في رجل من غطفان ، كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه ، فتراجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، ودفع ماله إليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره " أي جنته ، فلما قبض الصبي ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثبت الأجر وبقي الوزر " فقالوا : يا رسول الله لقد عرفنا أنه ثبت الأجر ، فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله ؟ فقال : ثبت أجر الغلام وبقي الوزر على والده .

[ ص: 138 ] المسألة الخامسة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على أن السفيه ، لا يحجر عليه بعد الخمس والعشرين ، قال ؛ لأن قوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) مطلق يتناول السفيه أونس منه الرشد أو لم يؤنس ، ترك العمل به قبل الخمس والعشرين سنة لاتفاق العلماء على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن ، شرط في وجوب دفع المال إليه ، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهر هذه الآية .

أجاب أصحابنا عنه : بأن هذه الآية عامة ، لأنه تعالى ذكر اليتامى فيها جملة ، ثم إنهم ميزوا بعد ذلك بقوله : ( وابتلوا اليتامى ) [ النساء : 6 ] وبقوله : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) [ النساء : 5 ] حرم بهاتين الآيتين إيتاءهم أموالهم إذا كانوا سفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام .

التالي السابق


الخدمات العلمية