صفحة جزء
( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) .

أما قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) .

ففيه مسائل :

المسألة الأولى : قال أصحاب الظاهر : النكاح واجب ، وتمسكوا بهذه الآية ، وذلك ؛ لأن قوله ( فانكحوا ) أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، وتمسك الشافعي في بيان أنه ليس بواجب بقوله تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 25 ] إلى قوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم ) [ النساء : 25 ] فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله ، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب ، فضلا عن أن يقال : إنه واجب .

المسألة الثانية : إنما قال : ( ما طاب ) ولم يقل : من طاب لوجوه :

أحدها : أنه أراد به الجنس تقول : ما عندك ؟ فيقول رجل أو امرأة ، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك ، وما تلك الحقيقة التي عندك .

وثانيها : أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر ، وتقديره : فانكحوا الطيب من النساء .

وثالثها : أن " ما " و " من " ربما يتعاقبان . قال تعالى : ( والسماء وما بناها ) [ الشمس : 5 ] وقال : ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [ ص: 141 ] [ الكافرون : 5 ] وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان ما سبح له الرعد ، وقال : ( فمنهم من يمشي على بطنه ) [ النور : 45 ] ، ورابعها : إنما ذكر " ما " تنزيلا للإناث منزلة غير العقلاء . ومنه : قوله : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 6 ] .

المسألة الثالثة : قال الواحدي وصاحب " الكشاف " : قوله ( ما طاب لكم ) أي ما حل لكم من النساء ؛ لأن منهن من يحرم نكاحها ، وهي الأنواع المذكورة في قوله : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ) [ النساء : 23 ] وهذا عندي فيه نظر ، وذلك لأنا بينا أن قوله : ( فانكحوا ) أمر إباحة . فلو كان المراد بقوله : ( ما طاب لكم ) أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم : وذلك يخرج الآية عن الفائدة ، وأيضا فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة ؛ لأن أسباب الحل والإباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة ، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب ، كانت الآية عاما دخله التخصيص . وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص كان رفع الإجمال أولى ؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا .

المسألة الرابعة : ( مثنى وثلاث ورباع ) معناه : اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وهو غير منصرف ، وفيه وجهان :

الأول : أنه اجتمع فيها أمران : العدل والوصف ، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى ، كما تقول : عمر وزفر وتريد به عامرا وزافرا ، فكذا ههنا تريد بقولك : مثنى : ثنتين ثنتين فكان معدولا .

وأما أنه وصف ، فدليله قوله تعالى : ( أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) [ فاطر : 1 ] ولا شك أنه وصف .

الوجه الثاني في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة : أن فيها عدلين ؛ لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه ، وأيضا أنها معدولة عن تكررها ، فإنك لا تريد بقولك : مثنى ثنتين فقط ، بل ثنتين ثنتين ، فإذا قلت : جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الإخبار عن مجيء هذا العدد فقط ، أما إذا قلت : جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين ، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف ، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف ، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين ، فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه ، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم .

المسألة الخامسة : قال أهل التحقيق : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) لا يتناول العبيد ، وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها ، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه ، ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) [ النحل : 75 ] فقوله : ( لا يقدر على شيء ) ينفي كونه مستقلا بالنكاح ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد .

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون [ ص: 142 ] العبيد ، وقال مالك : يحل للعبد أن يتزوج بالأربع ، وتمسك بظاهر هذه الآية .

والجواب الذي يعتمد عليه : أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه :

الأول : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) وهذا لا يكون إلا للأحرار .

والثاني : أنه تعالى قال : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [ النساء : 4 ] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده . قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان ، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق .

أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس ، قالوا : أجمعنا على أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح ، كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر ، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم .

المسألة السادسة : ذهب قوم منهم السدي إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر .

أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا .

والثاني : أن قوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) لا يصلح تخصيصا لذلك العموم ؛ لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا ، فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقا ، ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة ، بل كان إذنا في المذكور وغيره ، فكذا ههنا ، وأيضا فذكر جميع الأعداد متعذر ، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد .

والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) يفيد حل هذا المجموع ، وهو يفيد تسعة ، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر ، لأن قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذا القول في البقية . وأما الخبر فمن وجهين :

الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وأقل مراتب الأمر الإباحة .

الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .

واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين :

الأول : الخبر ، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أمسك أربعا وفارق باقيهن ، وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام : " أمسك أربعا وفارق واحدة " .

واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين :

الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان [ ص: 143 ] ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد ، وإنه غير جائز .

والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي ؛ لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز ، إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله .

الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول : أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ ، فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية !. الثاني : أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد .

والجواب عن الأول : الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني ، أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته .

فإن قيل : فإذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : مثنى أو ثلاث أو رباع ، فلم جاء بواو العطف دون " أو " ؟

قلنا : لو جاء بكلمة " أو " لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك إلا على أحد هذه الأقسام ، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ، ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ههنا الفائدة في ترك " أو " وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم .

المسألة السابعة : قوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) محله النصب على الحال مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية