1. الرئيسية
  2. التفسير الكبير
  3. سورة النساء
  4. قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم
صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( فادفعوا إليهم أموالهم ) والمراد أن عند حصول الشرطين ، أعني البلوغ وإيناس الرشد يجب دفع المال إليهم ، وإنما لم يذكر تعالى مع هذين الشرطين كمال العقل ؛ لأن إيناس الرشد لا يحصل إلا مع العقل ؛ لأنه أمر زائد على العقل .

ثم قال تعالى : ( ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ) أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون : ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا ، ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا وبين أن يكون فقيرا فقال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) قال الواحدي رحمه الله : استعف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه ، وقال صاحب " الكشاف " : استعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة وقال : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) واختلف العلماء في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم ؟ وفي هذه المسألة أقوال : أحدهما : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم وبقدر أجر عمله ، واحتج القائلون بهذا القول بوجوه :

الأول : أن قوله تعالى : ( ولا تأكلوها إسرافا ) مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة .

وثانيها : أنه قال : ( ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) فقوله : ( ومن كان غنيا فليستعفف ) ليس المراد منه نهي الوصي الغني عن الانتفاع بمال نفسه ، بل المراد منه نهيه عن الانتفاع بمال اليتيم ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون قوله : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) إذنا للوصي في أن ينتفع بمال اليتيم بمقدار الحاجة .

وثالثها : قوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) [ النساء : 10 ] وهذا دليل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، ولو لم يكن ذلك لم يكن لقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) فائدة ، وهذا يدل على أن للوصي المحتاج أن يأكل من ماله بالمعروف .

ورابعها : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له : إن تحت حجري يتيما أآكل من ماله ؟ قال : بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله ، قال : أفأضربه ؟ قال : مما كنت ضاربا منه ولدك .

وخامسها : ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف : سلام عليكم أما بعد : فإني رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار ، وربعها لعبد الله بن مسعود ، وربعها لعثمان ، ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله بمنزلة ولي مال اليتيم : من كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . وعن ابن عباس أن ولي يتيم قال له : أفأشرب من لبن إبله ؟ قال : إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جرباها وتسقيها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب ، وعنه أيضا : يضرب بيده مع أيديهم فليأكل بالمعروف ولا يلبس عمامة فما فوقها.

وسادسها : أن الوصي لما تكفل بإصلاح مهمات الصبي وجب أن يتمكن من أن يأكل من ماله بقدر عمله قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها ، فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم ، فكذا ههنا ، فهذا تقرير هذا القول .

والقول الثاني : أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من مال اليتيم قرضا ، ثم إذا أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه ، وهذا قول سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس . وبعض أهل العلم خص هذا الإقراض بأصول الأموال من الذهب والفضة وغيرها ، فأما التناول من [ ص: 156 ] ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب ، فمباح له إذا كان غير مضر بالمال ، وهذا قول أبي العالية وغيره ، واحتجوا بأن الله تعالى قال : ( فإذا دفعتم إليهم أموالهم ) فحكم في الأموال بدفعها إليهم .

والقول الثالث : قال أبو بكر الرازي : الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء ، سواء كان غنيا أو فقيرا . واحتج عليه بآيات : منها : قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) إلى قوله : ( إنه كان حوبا كبيرا ) ومنها : قوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ) [ النساء : 10 ] . ومنها قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) [ النساء : 127 ] ومنها : قوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : 188 ] قال : فهذه الآية محكمة حاصرة لمال اليتيم على وصيه في حال الغنى والفقر ، وقوله : ( ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ) متشابه محتمل فوجب رده لكونه متشابها إلى تلك المحكمات ، وعندي أن هذه الآية لا تدل على ما ذهب الرازي إليه . أما قوله : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) [ النساء : 2 ] فهو عام وهذه الآية التي نحن فيها خاصة ، والخاص مقدم على العام . وقوله : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ) فهو إنما يتناول هذه الواقعة لو ثبت أن أكل الوصي من مال الصبي بالمعروف ظلم ، وهل النزاع إلا فيه ، وهو الجواب بعينه عن قوله : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : 188 ] أما قوله : ( وأن تقوموا لليتامى بالقسط ) [ النساء : 127 ] فهو إنما يتناول محل النزاع لو ثبت أن هذا الأكل ليس بقسط ، والنزاع ليس إلا فيه ، فثبت أن كلامه في هذا الموضع ساقط ركيك . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية