صفحة جزء
( من بعد وصية يوصي بها ) .

قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها ) .

اعلم أن مسائل الوصايا تذكر في خاتمة هذه الآية ، وههنا مسائل :

المسألة الأولى : أنه تعالى لما ذكر أنصباء الأولاد والوالدين ، قال : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) أي هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء إذا فضل عن الوصية والدين ، وذلك لأن أول ما يخرج من التركة الدين ، حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق ، فأما إذا لم يكن دين ، أو كان إلا أنه قضي وفضل بعده شيء ، فإن أوصى الميت بوصية أخرجت الوصية من ثلث ما فضل ، ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله .

المسألة الثانية : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إنكم لتقرءون الوصية قبل الدين ، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية .

واعلم أن مراده رضي الله تعالى عنه التقديم في الذكر واللفظ ، وليس مراده أن الآية تقتضي تقديم الوصية على الدين في الحكم ؛ لأن كلمة " أو " لا تفيد الترتيب البتة .

واعلم أن الحكمة في تقديم الوصية على الدين في اللفظ من وجهين :

الأول : أن الوصية مال يؤخذ [ ص: 176 ] بغير عوض فكان إخراجها شاقا على الورثة ، فكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين ، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه ، فلهذا السبب قدم الله ذكر الوصية على ذكر الدين في اللفظ بعثا على أدائها وترغيبا في إخراجها ، ثم أكد في ذلك الترغيب بإدخال كلمة " أو " على الوصية والدين ، تنبيها على أنهما في وجوب الإخراج على السوية .

الثاني : أن سهام المواريث كما أنها تؤخر عن الدين فكذا تؤخر عن الوصية ، ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كان سهام الورثة معتبرة بعد تسليم الثلث إلى الموصى له ، فجمع الله بين ذكر الدين وذكر الوصية ، ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين ، بل فرق بين الدين وبين الوصية من جهة أخرى ، وهي أنه لو هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصايا وفي أنصباء أصحاب الإرث ، وليس كذلك الدين ، فإنه لو هلك من المال شيء استوفي الدين كله من الباقي ، وإن استغرقه بطل حق الموصى له وحق الورثة جميعا ، فالوصية تشبه الإرث من وجه ، والدين من وجه آخر ، أما مشابهتها بالإرث فما ذكرنا أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية والإرث ، وأما مشابهتها بالدين فلأن سهام أهل المواريث معتبرة بعد الوصية كما أنها معتبرة بعد الدين . والله أعلم .

المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : ما معنى " أو " ههنا وهلا قيل : من بعد وصية يوصي بها ودين ، والجواب من وجهين :

الأول : أن " أو " معناها الإباحة كما لو قال قائل : جالس الحسن أو ابن سيرين ، والمعنى أن كل واحد منهما أهل أن يجالس ، فإن جالست الحسن فأنت مصيب ، أو ابن سيرين فأنت مصيب ، وإن جمعتهما فأنت مصيب ، أما لو قال : جالس الرجلين فجالست واحدا منهما وتركت الآخر كنت غير موافق للأمر ، فكذا ههنا لو قال : من بعد وصية ودين وجب في كل مال أن يحصل فيه الأمران ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، أما إذا ذكره بلفظ " أو " كان المعنى أن أحدهما إن كان فالميراث بعده ، وكذلك إن كان كلاهما .

الثاني : أن كلمة " أو " إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو كقوله : ( ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) [ الإنسان : 24 ] وقوله : ( حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) [ الأنعام : 146 ] فكانت " أو " ههنا بمعنى الواو ، فكذا قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين ) لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال : إلا أن يكون هناك وصية أو دين فيكون المراد بعدهما جميعا .

المسألة الرابعة : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ( يوصى ) بفتح الصاد على ما لم يسم فاعله . وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر الصاد إضافة إلى الموصي وهو الاختيار بدليل قوله تعالى : ( مما ترك إن كان له ولد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية