صفحة جزء
ثم قال تعالى : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي جواز الوصية بكل المال وبأي بعض أريد ، ومما يوافق هذه الآية من الأحاديث ما روى نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما حق امرئ مسلم له مال يوصي به ثم تمضي عليه ليلتان إلا ووصيته مكتوبة عنده " فهذا الحديث أيضا يدل على الإطلاق في الوصية كيف أريد ، إلا أنا نقول : هذه العمومات مخصوصة من وجهين :

الأول : في قدر الوصية ، فإنه لا يجوز الوصية بكل المال بدلالة القرآن والسنة ، أما القرآن فالآيات الدالة على الميراث مجملا ومفصلا ، أما المجمل فقوله تعالى : ( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ) ومعلوم أن الوصية بكل المال تقتضي نسخ هذا النص ، وأما المفصل فهي آيات المواريث كقوله : ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ) وأما السنة فهي الحديث المشهور في هذا الباب ، وهو [ ص: 182 ] قوله عليه الصلاة والسلام : " الثلث والثلث كثير إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

واعلم أن هذا الحديث يدل على أحكام : أحدها : أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث .

وثانيها : أن الأولى النقصان عن الثلث لقوله : " والثلث كثير "

وثالثها : أنه إذا ترك القليل من المال وورثته فقراء فالأفضل له أن لا يوصي بشيء لقوله عليه الصلاة والسلام : " إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " .

ورابعها : فيه دلالة على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث ؛ لأن المنع منه لأجل الورثة ، فعند عدمهم وجب الجواز .

الوجه الثاني : تخصيص عموم هذه الآية في الموصى له ، وذلك لأنه لا يجوز الوصية لوارث ، قال عليه الصلاة والسلام : " ألا لا وصية لوارث " .

المسألة الثانية : قال الشافعي رحمة الله عليه : إذا أخر الزكاة والحج حتى مات يجب إخراجهما من التركة ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب ، حجة الشافعي : أن الزكاة الواجبة والحج الواجب دين فيجب إخراجه بهذه الآية ، وإنما قلنا : إنه دين ؛ لأن اللغة تدل عليه ، والشرع أيضا يدل عليه ، أما اللغة فهو أن الدين عبارة عن الأمر الموجب للانقياد ، قيل في الدعوات المشهورة ؛ يا من دانت له الرقاب ، أي انقادت ، وأما الشرع فلأنه روي أن الخثعمية لما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحج الذي كان على أبيها ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزئ ؟ فقالت : نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام : فدين الله أحق أن يقضى " إذا ثبت أنه دين وجب تقديمه على الميراث لقوله تعالى : ( من بعد وصية يوصى بها أو دين ) قال أبو بكر الرازي : المذكور في الآية الدين المطلق ، والنبي صلى الله عليه وسلم سمى الحج دينا لله ، والاسم المطلق لا يتناول المقيد .

قلنا : هذا في غاية الركاكة ؛ لأنه لما ثبت أن هذا دين ، وثبت بحكم الآية أن الدين مقدم على الميراث لزم المقصود لا محالة ، وحديث الإطلاق والتقييد كلام مهمل لا يقدح في هذا المطلوب . والله أعلم .

المسألة الثالثة : اعلم أن قوله تعالى : ( غير مضار ) نصب على الحال ، أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته .

واعلم أن الضرار في الوصية يقع على وجوه :

أحدها : أن يوصي بأكثر من الثلث .

وثانيها : أن يقر بكل ماله أو ببعضه لأجنبي .

وثالثها : أن يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعا للميراث عن الورثة .

ورابعها : أن يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه .

وخامسها : أن يبيع شيئا بثمن بخس أو يشتري شيئا بثمن غال ، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة .

وسادسها : أن يوصي بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص حقوق الورثة ، فهذا هو وجه الإضرار في الوصية .

واعلم أن العلماء قالوا : الأولى أن يوصي بأقل من الثلث ، قال علي : لأن أوصي بالخمس أحب إلي من الربع . ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث . وقال النخعي : قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ، وقبض أبو بكر فوصى ، فإن أوصى الإنسان فحسن ، وإن لم يوص فحسن أيضا .

[ ص: 183 ] واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف ، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك ، فإن كان ماله قليلا وفي الورثة كثرة لم يوص ، وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب حاجتهم بعده في القلة والكثرة . والله أعلم .

المسألة الرابعة : روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الإضرار في الوصية من الكبائر . واعلم أنه يدل على ذلك القرآن والسنة والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله ) قال ابن عباس في الوصية : ( ومن يعص الله ورسوله ) قال في الوصية ، وأما السنة فروى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الإضرار في الوصية من الكبائر " وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة وجار في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام : " من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة " ومعلوم أن الزيادة في الوصية قطع من الميراث .

وأما المعقول فهو أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى ، وتمرد عظيم عن الانقياد لتكاليفه ، وذلك من أكبر الكبائر .

التالي السابق


الخدمات العلمية