صفحة جزء
المسألة الثالثة : في المراد بقوله : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ) قولان : الأول : المراد منه الزنا ، وذلك لأن المرأة إذا نسبت إلى الزنا فلا سبيل لأحد عليها إلا بأن يشهد أربعة رجال مسلمون على أنها ارتكبت الزنا ، فإذا شهدوا عليها أمسكت في بيت محبوسة إلى أن تموت أو يجعل الله لهن سبيلا ، وهذا قول جمهور المفسرين .

والقول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني : أن المراد بقوله : ( واللاتي يأتين الفاحشة ) السحاقات ، وحدهن الحبس إلى الموت وبقوله : ( واللذان يأتيانها منكم ) [ النساء : 16 ] أهل اللواط ، وحدهما الأذى بالقول والفعل ، والمراد بالآية المذكورة في سورة النور : الزنا بين الرجل والمرأة ، وحده في البكر الجلد ، وفي المحصن الرجم ، واحتج أبو مسلم عليه بوجوه :

الأول : أن قوله : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ) مخصوص بالنسوان ، وقوله : ( واللذان يأتيانها منكم ) مخصوص بالرجال ؛ لأن قوله : ( واللذان ) تثنية الذكور .

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : ( واللذان ) الذكر والأنثى إلا أنه غلب لفظ المذكر .

قلنا : لو كان كذلك لما أفرد ذكر النساء من قبل ، فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعده قوله : ( واللذان يأتيانها منكم ) سقط هذا الاحتمال .

الثاني : هو أن على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات ، بل يكون حكم كل واحدة منها باقيا مقررا ، وعلى التقدير الذي ذكرتم يحتاج إلى التزام النسخ ، فكان هذا القول أولى .

والثالث : أن على الوجه الذي ذكرتم يكون قوله : ( واللاتي يأتين الفاحشة ) في الزنا وقوله : ( واللذان يأتيانها منكم ) يكون أيضا في الزنا ، فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وإنه قبيح ، وعلى الوجه الذي قلناه لا يفضي إلى ذلك فكان أولى .

الرابع : أن القائلين بأن هذه الآية نزلت في الزنا فسروا قوله : ( أو يجعل الله لهن سبيلا ) بالرجم والجلد والتغريب ، وهذا لا يصح ؛ لأن هذه الأشياء تكون عليهن لا لهن . قال تعالى : ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) [ البقرة : 286 ] وأما نحن فإنا نفسر ذلك بأن يسهل الله لها قضاء الشهوة بطريق النكاح ، ثم قال أبو مسلم : ومما يدل على صحة ما ذكرناه قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " واحتجوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه :

الأول : أن هذا قول لم يقله أحد من المفسرين المتقدمين فكان باطلا .

والثاني : أنه روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : " قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد " وهذا يدل على أن هذه الآية نازلة في حق الزناة .

الثالث : أن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواط ، ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية ، فعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم من أقوى الدلائل على أن هذه الآية ليست في اللواطة .

والجواب عن الأول : أن هذا إجماع ممنوع فلقد قال بهذا القول مجاهد ، وهو من أكابر المفسرين ، ولأنا بينا في أصول الفقه أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز .

[ ص: 188 ]

والجواب عن الثاني : أن هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز .

والجواب عن الثالث : أن مطلوب الصحابة أنه هل يقام الحد على اللوطي ؟ وليس في هذه الآية دلالة على ذلك بالنفي ولا بالإثبات ، فلهذا لم يرجعوا إليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية