صفحة جزء
النوع الخامس : من الأمور التي كلف الله تعالى بها في هذه الآية من الأمور المتعلقة بالنساء :

( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا )

قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال ابن عباس وجمهور المفسرين : كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهاهم الله بهذه الآية عن ذلك الفعل .

المسألة الثانية : قال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه ، وقال الشافعي - رحمة الله عليه - : لا يحرم ، احتج أبو حنيفة بهذه الآية فقال : إنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه ، والنكاح عبارة عن الوطء فكان نهيا عن نكاح موطوءة أبيه ، إنما قلنا : إن النكاح عبارة عن الوطء لوجوه : الأول : قوله تعالى : ( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] أضاف هذا النكاح إلى الزوج ، والنكاح المضاف إلى الزوج هو الوطء لا العقد ؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يتزوج بزوجة نفسه لأن تحصيل الحاصل محال ، ولأنه لو كان المراد بالنكاح في هذه الآية هو العقد لوجب أن يحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد ، فتعين أن يكون هو الوطء ؛ لأنه لا قائل بالفرق .

الثاني : قوله تعالى : ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح ) [ النساء : 6 ] والمراد من النكاح ههنا الوطء لا العقد ؛ لأن أهلية العقد كانت حاصلة أبدا .

الثالث : قوله تعالى : ( الزاني لا ينكح إلا زانية ) [ النور : 3 ] فلو كان المراد ههنا العقد لزم الكذب .

الرابع : قوله عليه الصلاة والسلام : " ناكح اليد ملعون " ، ومعلوم أن المراد ليس هو العقد بل هو الوطء . فثبت بهذه الوجوه أن النكاح عبارة عن الوطء ، فلزم أن يكون قوله تعالى : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) أي : ولا تنكحوا ما وطئهن آباؤكم ، وهذا يدخل فيه المنكوحة والمزنية ، لا يقال : كما أن لفظ النكاح ورد بمعنى الوطء فقد ورد أيضا بمعنى العقد قال تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) [ النور : 32 ] ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] ( إذا نكحتم المؤمنات ) [ الأحزاب : 49 ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " فلم كان حمل [ ص: 16 ] اللفظ على الوطء أولى من حمله على العقد ؟

أجابوا عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : ما ذهب إليه الكرخي ، وهو أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، بدليل أن لفظ النكاح في أصل اللغة عبارة عن الضم ، ومعنى الضم حاصل في الوطء لا في العقد ، فكان لفظ النكاح حقيقة في الوطء ، ثم إن العقد سمي بهذا الاسم لأن العقد لما كان سببا له أطلق اسم المسبب على السبب ، كما أن العقيقة اسم للشعر الذي يكون على رأس الصبي حال ما يولد ، ثم تسمى الشاة التي تذبح عند حلق ذلك الشعر عقيقة فكذا ههنا .

واعلم أنه كان مذهب الكرخي أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته ومجازه معا ، فلا جرم كان يقول : المستفاد من هذه الآية حكم الوطء ، أما حكم العقد فإنه غير مستفاد من هذه الآية ، بل من طريق آخر ودليل آخر .

الوجه الثاني : أن من الناس من ذهب إلى أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميه معا ، فهذا القائل قال : دلت الآيات المذكورة على أن لفظ النكاح حقيقة في الوطء وفي العقد معا ، فكان قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) نهيا عن الوطء وعن العقد معا ، حملا للفظ على كلا مفهوميه .

الوجه الثالث في الاستدلال : وهو قول من يقول : اللفظ المشترك لا يجوز استعماله في مفهوميه معا ، قالوا : ثبت بالدلائل المذكورة أن لفظ النكاح قد استعمل في القرآن في الوطء تارة وفي العقد أخرى ، والقول بالاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، ولا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو معنى الضم حتى يندفع الاشتراك والمجاز ، وإذا كان كذلك كان قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) نهيا عن القدر المشترك بين هذين القسمين ، والنهي عن القدر المشترك بين القسمين يكون نهيا عن كل واحد من القسمين لا محالة ، فإن النهي عن التزويج يكون نهيا عن العقد وعن الوطء معا ، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الاستدلال .

والجواب عنه من وجوه :

الأول : لا نسلم أن اسم النكاح يقع على الوطء ، والوجوه التي احتجوا بها على ذلك فهي معارضة بوجوه :

أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام : " النكاح سنتي " ، ولا شك أن الوطء من حيث كونه وطئا ليس سنة له ، وإلا لزم أن يكون الوطء بالسفاح سنة له ، فلما ثبت أن النكاح سنة ، وثبت أن الوطء ليس سنة ، ثبت أن النكاح ليس عبارة عن الوطء ، كذلك التمسك بقوله : " تناكحوا تكثروا " ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذنا في مطلق الوطء وكذلك التمسك بقوله تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) [ النور : 32 ] ، وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] .

لا يقال : لما وقع التعارض بين هذه الدلائل فالترجيح معنا ، وذلك لأنا لو قلنا : الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دلائلنا ، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى .

لأنا نقول : أنتم تساعدون على أن لفظ النكاح مستعمل في العقد ، فلو قلنا : إن النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ، ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النكاح فيها بمعنى العقد ، أما لو قلنا : إن النكاح فيها بمعنى الوطء فلا يلزمنا التخصيص ، فقولكم يوجب المجاز [ ص: 17 ] والتخصيص معا ، وقولنا يوجب المجاز فقط ، فكان قولنا أولى .

الوجه الثاني من الوجوه الدالة على أن النكاح ليس حقيقة في الوطء : قوله عليه الصلاة والسلام : " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " أثبت نفسه مولودا من النكاح وغير مولود من السفاح ، وهذا يقتضي أن لا يكون السفاح نكاحا ، والسفاح وطء ، فهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحا .

الوجه الثالث : أنه من حلف في أولاد الزنا : أنهم ليسوا أولاد النكاح لم يحنث ، ولو كان الوطء نكاحا لوجب أن يحنث ، وهذا دليل ظاهر على أن الوطء ليس مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة . الثاني : سلمنا أن الوطء مسمى بالنكاح ، لكن العقد أيضا مسمى به ، فلم كان حمل الآية على ما ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا ؟

أما الوجه الأول : وهو الذي ذكره الكرخي فهو في غاية الركاكة ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن الوطء مسبب العقد ، فكما يحسن إطلاق المسبب على السبب مجازا فكذلك يحسن إطلاق اسم السبب على المسبب مجازا ، فكما يحتمل أن يقال : النكاح اسم للوطء ثم أطلق هذا الاسم على العقد لكونه سببا للوطء ، فكذلك يحتمل أن يقال : النكاح اسم للعقد ، ثم أطلق هذا الاسم على الوطء لكون الوطء مسببا له ، فلم كان أحدهما أولى من الآخر ؟ بل الاحتمال الذي ذكرناه أولى ؛ لأن استلزام السبب للمسبب أتم من استلزام المسبب للسبب المعين ، فإنه لا يمتنع أن يكون لحصول الحقيقة الواحدة أسباب كثيرة ، كالملك فإنه يحصل بالبيع والهبة والوصية والإرث ، ولا شك أن الملازمة شرط لجواز المجاز ، فثبت أن القول بأن اسم النكاح حقيقة في العقد مجاز في الوطء ، أولى من عكسه .

الوجه الثاني : أن النكاح لو كان حقيقة في الوطء مجازا في العقد ، وقد ثبت في أصول الفقه أنه لا يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معا ، فحينئذ يلزم أن لا تكون الآية دالة على حكم العقد ، وهذا وإن كان قد التزمه الكرخي لكنه مدفوع بالدليل القاطع ؛ وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم ، وأجمع المسلمون على أن سبب نزول الآية لا بد وأن يكون داخلا تحت الآية ، بل اختلفوا في أن غيره هل يدخل تحت الآية أم لا ؟

وأما كون النزول داخلا فيها فذاك مجمع عليه بين الأمة ، فإذا ثبت بإجماع المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو العقد لا الوطء ، وثبت بإجماع المسلمين أن سبب النزول لا بد وأن يكون مرادا ، ثبت بالإجماع أن النهي عن العقد مراد من هذه الآية ، فكان قول الكرخي واقعا على مضادة هذا الدليل القاطع ، فكان فاسدا مردودا قطعا .

أما الوجه الثاني : مما ذكروه وهو أنا نحمل لفظ النكاح على مفهوميه ، فنقول : هذا أيضا باطل ، وقد بينا وجه بطلانه في أصول الفقه .

أما الوجه الثالث : فهو أحسن الوجوه المذكورة في هذا الباب ، وهو أيضا ضعيف لأن الضم الحاصل في الوطء عبارة عن تجاور الأجسام وتلاصقها ، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك ؛ لأن الإيجاب والقبول أصوات غير باقية ، فمعنى الضم والتلاقي والتجاور فيها محال ، وإذا كان كذلك ثبت أنه ليس بين الوطء وبين العقد مفهوم مشترك حتى يقال : إن لفظ النكاح حقيقة فيه ، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال : لفظ النكاح مشترك بين الوطء وبين العقد ، ويقال : إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر ، وحينئذ يرجع الكلام إلى [ ص: 18 ] الوجهين الأولين ، فهذا هو الكلام الملخص في هذا .

الوجه الثاني : في الجواب عن هذا الاستدلال أن نقول : سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ، ولكن لم قلتم : إن قوله : ( ما نكح آباؤكم ) المراد منه المنكوحة ؟ والدليل عليه إجماعهم على أن لفظة " ما " حقيقة في غير العقلاء ، فلو كان المراد منه ههنا المنكوحة لزم هذا المجاز ، وإنه خلاف الأصل ، بل أهل العربية اتفقوا على أن " ما " مع ما بعدها في تقدير المصدر ، فتقدير الآية : ولا تنكحوا نكاح آبائكم ، وعلى هذا يكون المراد منه النهي عن أن تنكحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم ، فإن أنكحتهم كانت بغير ولي ولا شهود ، وكانت مؤقتة ، وكانت على سبيل القهر والإلجاء ، فالله تعالى نهاهم بهذه الآية عن مثل هذه الأنكحة ، وهذا الوجه منقول عن محمد بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية .

الوجه الثالث في الجواب عن هذا الاستدلال : سلمنا أن المراد من قوله : ( ما نكح آباؤكم ) المنكوحة ، والتقدير : ولا تنكحوا من نكح آباؤكم ، ولكن قوله : من نكح آباؤكم ليس صريحا في العموم بدليل أنه يصح إدخال لفظي الكل والبعض عليه ، فيقال : ولا تنكحوا كل ما نكح آباؤكم ولا تنكحوا بعض من نكح آباؤكم ، ولو كان هذا صريحا في العموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكريرا ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصا ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، فثبت أن قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) لا يفيد العموم ، وإذا لم يفد العموم لم يتناول محل النزاع .

لا يقال : لو لم يفد العموم لم يكن صرفه إلى بعض الأقسام أولى من صرفه إلى الباقي ، فحينئذ يصير مجملا غير مفيد ، والأصل أن لا يكون كذلك .

لأنا نقول : لا نسلم أن بتقدير أن لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره ، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أن سبب نزوله إنما هو التزوج بزوجات الآباء ، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى ، وبهذا التقدير لا يلزم كون الآية مجملة ، ولا يلزم كونها متناولة لمحل النزاع .

الوجه الرابع : سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النزاع ، لكن لم قلتم : إنه يفيد التحريم ؟ أليس أن كثيرا من أقسام النهي لا يفيد التحريم ، بل يفيد التنزيه ؟ فلم قلتم : إنه ليس الأمر كذلك ؟ أقصى ما في الباب أن يقال : هذا على خلاف الأصل ، ولكن يجب المصير إليه إذا دل الدليل ، وسنذكر دلائل صحة هذا النكاح إن شاء الله تعالى .

الوجه الخامس : أن ما ذكرتم هب أنه يدل على فساد هذا النكاح ، إلا أن ههنا ما يدل على صحة هذا النكاح وهو من وجوه :

الحجة الأولى : هذا النكاح منعقد فوجب أن يكون صحيحا ، بيان أنه منعقد أنه عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - منهي عنه بهذه الآية ، ومن مذهبه أن النهي عن الشيء يدل على كونه في نفسه منعقدا وهذا هو أصل مذهبه في مسألة البيع الفاسد وصوم يوم النحر ، فيلزم من مجموع هاتين المقدمتين أن يكون هذا النكاح منعقدا على أصل أبي حنيفة ، وإذا ثبت القول بالانعقاد في هذه الصورة وجب القول بالصحة ؛ لأنه لا قائل بالفرق ، فهذا وجه حسن من طريق الإلزام عليهم في صحة هذا النكاح .

[ ص: 19 ]

الحجة الثانية : عموم قوله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) [ البقرة : 221 ] نهي عن نكاح المشركات ومد النهي إلى غاية وهي إيمانهن ، والحكم الممدود إلى غاية ينتهي عند حصول تلك الغاية ، فوجب أن ينتهي المنع من نكاحهن عند إيمانهن ، وإذا انتهى المنع حصل الجواز ، فهذا يقتضي جواز نكاحهن على الإطلاق ، ولا شك أنه يدخل في هذا العموم مزنية الأب وغيرها ، أقصى ما في الباب أن هذا العموم دخله التخصيص في مواضع يبقى حجة في غير محل التخصيص ، وكذلك نستدل بجميع العمومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى : ( وأنكحوا الأيامى ) [ النور : 32 ] وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] وأيضا نتمسك بقوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) ، وليس لأحد أن يقول : إن قوله : ( ما وراء ذلكم ) ضمير عائد إلى المذكور السابق ، ومن جملة المذكور السابق قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) وذلك لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات إليه هو من قوله : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) ، فكان قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) عائدا إليه ، ولا يدخل فيه قوله : ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ) وأيضا نتمسك بعمومات الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه " ، وقوله : " زوجوا بناتكم الأكفاء " فكل هذه العمومات يتناول محل النزاع .

واعلم أنا بينا في أصول الفقه أن الترجيح بكثرة الأدلة جائز ، وإذا كان كذلك فنقول بتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد ، فلو حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلا مجاز واحد ، وبتقدير أن نحمل تلك الآية على حرمة النكاح يلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة فكان الترجيح من جانبنا بسبب كثرة الدلائل .

الحجة الثالثة : الحديث المشهور في المسألة وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " الحرام لا يحرم الحلال " أقصى ما في الباب أن يقال : إن قطرة من الخمر إذا وقعت في كوز من الماء فههنا الحرام حرم الحلال ، وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن ، فههنا الحرام حرم الحلال ، إلا أنا نقول : دخول التخصيص فيه في بعض الصور ، ولا يمنع من الاستدلال به .

الحجة الرابعة : من جهة القياس أن نقول : المقتضي لجواز النكاح قائم ، والفارق بين محل الإجماع وبين محل النزاع ظاهر ، فوجب القول بالجواز ، أما المقتضي فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النسوان عند حصول الشرائط المتفق عليها ، بجامع ما في النكاح من المصالح ، وأما الفارق فهو أن هذه المحرمية إنما حكم الشرع بثبوتها سعيا في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح ومعلوم أن هذا لا يليق بالزنا .

بيان المقام الأول : من تزوج بامرأة ، فلو لم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه ، ولم تدخل على الرجل أم المرأة وبنتها ، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت ، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح ، ولو أذنا في هذا الدخول ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد عين البعض إلى البعض وحصل الميل والرغبة ، وعند حصول التزوج بأمها أو ابنتها تحصل النفرة الشديدة بينهن ؛ لأن صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعا وأشد إيلاما وتأثيرا ، وعند حصول النفرة الشديدة يحصل التطليق والفراق ، أما إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة ، فلا يحصل ذلك الضرر ، فبقي النكاح بين الزوجين سليما عن هذه المفسدة ، [ ص: 20 ] فثبت أن المقصود من حكم الشرع بهذه المحرمية السعي في تقرير الاتصال الحاصل بين الزوجين ، وإذا كان المقصود من شرع المحرمية إبقاء ذلك الاتصال ، فمعلوم أن الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء ، فيتناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية ، وأما الاتصال الحاصل عند الزنا فهو غير مطلوب البقاء ، فلم يتناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية ، وهذا وجه مقبول مناسب في الفرق بين البابين ، وهذا هو من قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - عند مناظرته في هذه المسألة محمد بن الحسن حيث قال : وطء حمدت به ، ووطء رجمت به ، فكيف يشتبهان ؟ ولنكتف بهذا القدر من الكلام في هذه المسألة .

واعلم أن السبب في ذكر هذا الاستقصاء ههنا أن أبا بكر الرازي طول في هذه المسألة في تصنيفه ، وما كان ذلك التطويل إلا تطويلا في الكلمات المختلطة والوجوه الفاسدة الركيكة ، ثم إنه لما آل الأمر إلى المكالمة مع الإمام الشافعي أساء في الأدب وتعدى طوره ، وخاض في السفاهة وتعامى عن تقرير دلائله وتغافل عن إيراد حججه ، ثم إنه بعد أن كتب الأوراق الكثيرة في الترهات التي لا نفع لمذهبه منها ولا مضرة على خصومه بسببها ، أظهر القدح الشديد والتصلف العظيم في كثرة علوم أصحابه وقلة علوم من يخالفهم ، ولو كان من أهل التحصيل لبكى على نفسه من تلك الكلمات التي حاول نصرة قوله بها ، ولتعلم الدلائل ممن كان أهلا لمعرفتها ، ومن نظر في كتابنا ونظر في كتابه وأنصف علم أنا أخذنا منه خرزة ، ثم جعلناها لؤلؤة من شدة التخليص والتقرير ثم أجبنا عنه بأجوبة مستقيمة على قوانين الأصول ، منطبقة على قواعد الفقه ، ونسأل الله حسن الخاتمة ودوام التوفيق والنصرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية