صفحة جزء
ثم قال : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " وأحل لكم " على ما لم يسم فاعله عطفا على قوله : " حرمت عليكم " ، والباقون بفتح الألف والحاء عطفا على " كتاب الله " يعني كتب الله عليكم تحريم هذه الأشياء وأحل لكم ما وراءها .

المسألة الثانية : اعلم أن ظاهر قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) يقتضي حل كل من سوى الأصناف المذكورة ، إلا أنه دل الدليل على تحريم أصناف أخر سوى هؤلاء المذكورين ونحن نذكرها .

الصنف الأول : لا يجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " وهذا خبر مشهور مستفيض ، وربما قيل : إنه بلغ مبلغ التواتر ، وزعم الخوارج أن هذا خبر واحد ، وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لا يجوز ، واحتجوا عليه بوجوه :

الأول : أن عموم الكتاب مقطوع المتن ظاهر الدلالة ، وخبر الواحد مظنون المتن ظاهر الدلالة ، فكان خبر الواحد أضعف من عموم القرآن ، فترجيحه عليه بمقتضى تقديم الأضعف على الأقوى وإنه لا يجوز .

الثاني : من جملة الأحاديث المشهورة خبر معاذ ، وإنه يمنع من تقديم خبر الواحد على عموم القرآن من وجهين ؛ لأنه قال : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم التمسك بكتاب الله على التمسك بالسنة ، وهذا يمنع من تقديم السنة على الكتاب ، وأيضا فإنه قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علق جواز التمسك بالسنة على عدم الكتاب بكلمة " إن " وهي للاشتراط ، والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط .

الثالث : أن من الأحاديث المشهورة قوله عليه الصلاة والسلام : " إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فاقبلوه وإلا فردوه " ، فهذا الخبر يقتضي أن لا يقبل خبر الواحد إلا عند موافقة الكتاب ، فإذا كان خبر العمة [ ص: 36 ] والخالة مخالفا لظاهر الكتاب وجب رده .

الرابع : أن قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) مع قوله عليه السلام : " لا تنكح المرأة على عمتها " لا يخلو الحال فيهما من ثلاثة أوجه : إما أن يقال : الآية نزلت بعد الخبر ، فحينئذ تكون الآية ناسخة للخبر ؛ لأنه ثبت أن العام إذا ورد بعد الخاص كان العام ناسخا للخاص ، وإما أن يقال : الخبر ورد بعد الكتاب ، فهذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد وإنه لا يجوز ، وإما أن يقال : وردا معا ، وهذا أيضا باطل لأن على هذا التقدير تكون الآية وحدها مشتبهة ، ويكون موضع الحجة مجموع الآية مع الخبر ، ولا يجوز للرسول المعصوم أن يسعى في تشهير الشبهة ولا يسعى في تشهير الحجة ، فكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يسمع أحدا هذه الآية إلا مع هذا الخبر ، وأن يوجب إيجابا ظاهرا على جميع الأمة أن لا يبلغوا هذه الآية إلى أحد إلا مع هذا الخبر ، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساويا لاشتهار هذه الآية ، ولما لم يكن كذلك علمنا فساد هذا القسم .

الوجه الخامس : أن بتقدير أن تثبت صحة هذا الخبر قطعا ، إلا أن التمسك بالآية راجح على التمسك بالخبر . وبيانه من وجهين :

الأول : أن قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) نص صريح في التحليل كما أن قوله : ( حرمت عليكم ) [ النساء : 23 ] نص صريح في التحريم ، وأما قوله : " لا تنكح المرأة على عمتها " فليس نصا صريحا ؛ لأن ظاهره إخبار ، وحمل الإخبار على النهي مجاز ، ثم بهذا التقدير فدلالة لفظ النهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ الإحلال على معنى الإباحة .

الثاني : أن قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) صريح في تحليل كل ما سوى المذكورات ، وقوله : " لا تنكح المرأة على عمتها " ليس صريحا في العموم ، بل احتماله للمعهود السابق أظهر .

الوجه السادس : أنه تعالى استقصى في هذه الآية شرح أصناف المحرمات فعد منها خمسة عشر صنفا ، ثم بعد هذا التفصيل التام والاستقصاء الشديد قال : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) فلو لم يثبت الحل في كل من سوى هذه الأصناف المذكورة لصار هذا الاستقصاء عبثا ولغوا ، وذلك لا يليق بكلام أحكم الحاكمين ، فهذا تقرير وجوه السؤال في هذا الباب .

والجواب على وجوه :

الأول : ما ذكره الحسن وأبو بكر الأصم ، وهو أن قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) لا يقتضي إثبات الحل على سبيل التأبيد ، وهذا الوجه عندي هو الأصح في هذا الباب ، والدليل عليه أن قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) إخبار عن إحلال كل ما سوى المذكورات وليس فيه بيان أن إحلال كل ما سوى المذكورات وقع على التأبيد أم لا ، والدليل على أنه لا يفيد التأبيد : أنه يصح تقسيم هذا المفهوم إلى المؤبد وإلى غير المؤبد ، فيقال تارة : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) أبدا ، وأخرى ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) إلى الوقت الفلاني ، ولو كان قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) صريحا في التأبيد لما كان هذا التقسيم ممكنا ، ولأن قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) لا يفيد إلا إحلال من سوى المذكورات ، وصريح العقل يشهد بأن الإحلال أعم من الإحلال المؤبد ومن الإحلال المؤقت ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) لا يفيد إلا حل من عدا المذكورات في ذلك الوقت ، فأما ثبوت حلهم في سائر الأوقات فاللفظ ساكت عنه بالنفي والإثبات ، وقد كان حل من سوى المذكورات ثابتا في ذلك الوقت ، وطريان حرمة بعضهم بعد ذلك لا يكون تخصيصا لذلك النص ولا نسخا له ، فهذا وجه حسن معقول مقرر ، وبهذا الطريق [ ص: 37 ] نقول أيضا : إن قوله : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) [ النساء : 23 ] ليس نصا في تأبيد هذا التحريم ، وإن ذلك التأبيد إنما عرفناه بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، لا من هذا اللفظ ، فهذا هو الجواب المعتمد في هذا الموضع .

الوجه الثاني : أنا لا نسلم أن حرمة الجمع بين المرأة وبين عمتها وخالتها غير مذكورة في الآية ، وبيانه من وجهين :

الأول : أنه تعالى حرم الجمع بين الأختين ، وكونهما أختين يناسب هذه الحرمة ؛ لأن الأختية قرابة قريبة ، والقرابة القريبة تناسب مزيد الوصلة والشفقة والكرامة ، وكون إحداهما ضرة الأخرى يوجب الوحشة العظيمة والنفرة الشديدة ، وبين الحالتين منافرة عظيمة ، فثبت أن كونها أختا لها يناسب حرمة الجمع بينهما في النكاح ، وقد ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مع الوصف المناسب له يدل بحسب اللفظ على كون الحكم معللا بذلك الوصف فثبت أن قوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) يدل على كون القرابة القريبة مانعة من الجمع في النكاح ، وهذا المعنى حاصل بين المرأة وعمتها أو خالتها ، فكان الحكم المذكور في الأختين مذكورا في العمة والخالة من طريق الدلالة ، بل ههنا أولى ، وذلك لأن العمة والخالة يشبهان الأم لبنت الأخ ولبنت الأخت ، وهما يشبهان الولد للعمة والخالة ، واقتضاء مثل هذه القرابة لترك المضارة أقوى من اقتضاء قرابة الأختية لمنع المضارة ، فكان قوله : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) مانعا من العمة والخالة بطريق الأولى . الثاني : أنه نص على حرمة التزوج بأمهات النساء فقال : ( وأمهات نسائكم ) ولفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة ، أما على العمة فلأنه تعالى قال مخبرا عن أولاد يعقوب عليه السلام : ( نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل ) [ البقرة : 133 ] فأطلق لفظ الأب على إسماعيل مع أنه كان عما ، وإذا كان العم أبا لزم أن تكون العمة أما ، وأما إطلاق لفظ الأم على الخالة فيدل عليه قوله تعالى : ( ورفع أبويه على العرش ) [ يوسف : 100 ] والمراد أبوه وخالته ، فإن أمه كانت متوفاة في ذلك الوقت ، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الأم قد ينطلق على العمة والخالة ، فكان قوله : ( وأمهات نسائكم ) متناولا للعمة والخالة من بعض الوجوه .

وإذا عرفت هذا فنقول : قوله : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) المراد ما وراء هؤلاء المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو بدلالة خفية ، وإذا كان كذلك لم تكن العمة والخالة خارجة عن المذكورات .

الوجه الثالث : في الجواب عن شبهة الخوارج أن نقول : قوله تعالى : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) عام ، وقوله : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها " خاص ، والخاص مقدم على العام ، ثم ههنا طريقان : تارة نقول : هذا الخبر بلغ في الشهرة مبلغ التواتر ، وتخصيص عموم القرآن بخبر المتواتر جائز ، وعندي هذا الوجه كالمكابرة ؛ لأن هذا الخبر وإن كان في غاية الشهرة في زماننا هذا لكنه لما انتهى في الأصل إلى رواية الآحاد لم يخرج عن أن يكون من باب الآحاد . وتارة نقول : تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد جائز ، وتقريره مذكور في الأصول ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب ، والمعتمد في الجواب عندنا الوجه الأول .

الصنف الثالث من التخصيصات الداخلة في هذا العموم : أن المطلقة ثلاثا لا تحل ، إلا أن هذا التخصيص ثبت بقوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) [ البقرة : 230 ] .

الصنف الرابع : تحريم نكاح المعتدة ، ودليله قوله تعالى : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) [ ص: 38 ] [ البقرة : 228 ] .

الصنف الخامس : من كان في نكاحه حرة لم يجز له أن يتزوج بالأمة ، وهذا بالاتفاق ، وعند الشافعي : القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة ، ودليل هذا التخصيص قوله : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 25 ] وسيأتي بيان دلالة هذه الآية على هذا المطلوب .

الصنف السادس : يحرم عليه التزوج بالخامسة ، ودليله قوله تعالى : ( مثنى وثلاث ورباع ) [ النساء : 3 ] .

الصنف السابع : الملاعنة : ودليله قوله عليه الصلاة والسلام : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا ".

التالي السابق


الخدمات العلمية