صفحة جزء
الباب الثامن

في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى ، وفيه مسائل

المسألة الأولى : اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى توقيفية أم اصطلاحية ، قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان واردا في القرآن والأحاديث الصحيحة ، وقال [ ص: 129 ] آخرون : كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز ، وإلا فلا ، وقال الشيخ الغزالي - رحمة الله عليه - : الاسم غير ، والصفة غير ، فاسمي محمد واسمك أبو بكر فهذا من باب الأسماء ، وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلا فقيها كذا وكذا ، إذا عرفت هذا الفرق فيقال : أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر ، وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف .

واحتج الأولون بأن قالوا : إن العالم له أسماء كثيرة ، ثم إنا نصف الله تعالى بكونه عالما ، ولا نصفه بكونه طبيبا ولا فقيها ، ولا نصفه بكونه متيقنا ولا بكونه متبينا ، وذلك يدل على أنه لا بد من التوقيف ، وأجيب عنه فقيل : أما الطبيب فقد ورد ؛ نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له : نحضر الطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني ، وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه ، وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى ، وأما المتيقن فهو مشتق من " يقن الماء في الحوض " إذا اجتمع فيه ، فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم ، وذلك في حق الله تعالى محال ، وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء ، وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين ، فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة ؛ فلهذا السبب سمي ذلك بيانا وتبيينا ، ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال .

واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه :

الأول : أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية ، وأن شيئا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار ، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها .

الثاني : أن الله تعالى قال : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) [ الأعراف : 180 ] والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال ، فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسما حسنا ، فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكا بهذه الآية .

الثالث : أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني ، فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثا ، وأما الذي قاله الشيخ الغزالي - رحمة الله تعالى عليه - فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب ، ففي حق الله أولى ، أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع ، فكذلك في حق البارئ تعالى .

المسألة الثانية : اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى ، ونحن نعد منها صورا ، فأحدها الاستهزاء ، قال تعالى : الله يستهزئ بهم ) [ البقرة : 15 ] ثم إن الاستهزاء جهل ، والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام : ( أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) [ البقرة : 67 ] .

وثانيها المكر ، قال تعالى : ( ومكروا ومكر الله ) [ آل عمران : 54 ] وثالثها الغضب قال تعالى : ( وغضب الله عليهم ) [ الفتح : 6 ] ورابعها : التعجب ، قال تعالى : ( بل عجبت ويسخرون ) [ الصافات : 12 ] فمن قرأ " عجبت " بضم التاء كان التعجب منسوبا إلى الله ، والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء . وخامسها التكبر ، قال تعالى : ( العزيز الجبار المتكبر ) [ الحشر : 23 ] وهو صفة ذم . وسادسها الحياء ، قال تعالى : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ) [ البقرة : 26 ] والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح .

[ ص: 130 ] واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول : لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية آثار تصدر عنها في النهاية ، مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج ، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه ، فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فاحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض ، وقس الباقي عليه .

المسألة الثالثة : رأيت في بعض كتب التذكير أن لله تعالى أربعة آلاف اسم : ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة ، وألف منها في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور ، ويقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ، ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر ، وأقول : هذا غير مستبعد ، فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية ، ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحا بليغا ، بل نقول : كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر ، كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر ، ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر ، فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم ، ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبها للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه ، وذلك [ أنه ] لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة ، ثم لما عرف أن كل واحد من هذه الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام . ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة ، وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر ، وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالا معينا ، ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين ، إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل ، فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم : 34 ] فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى ، ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا . وذكر جالينوس في كتاب ( منافع الأعضاء ) أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور . قال : وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها ، فرأيت في بعض الليالي كأن ملكا نزل من السماء وقال : جالينوس ، إن إلهك يقول : لم أخفيت حكمتي عن عبادي ، قال : فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتابا مفردا ، وبالغت في شرحه . فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى .

المسألة الرابعة : أنا نرى في كتب الطلسمات والعزائم أذكارا غير معلومة ورقى غير مفهومة ، وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة ، وأقول : لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ ، ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية ، فتلك الرقى إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلا لم يكن فيها فائدة ، وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه ، وإما أن تكون دالة [ ص: 131 ] على شيء آخر : أما الثاني فإنه لا يفيد ؛ لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب ، فبقي أن يقال : إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء ، فنقول : ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية ، وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر ، فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات ، لكن لقائل أن يقول : إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة ، فإذا قرءوا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ، ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات ، فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير ، أما إذا قرءوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم ، فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم ، وتوجه إلى عالم القدس ، وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير ، فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقى المجهولة .

المسألة الخامسة : أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة ، والعاقل لا بد وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر ، والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية ، وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية ، فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة ، وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة ، وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة ، وبعضها قاسية قاهرة ، وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها ، وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء ، ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ، ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس ، وأن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجا معينا وطريقا مبينا في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة ، وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية ، وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان ، فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام : الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وبقوله عليه الصلاة والسلام : الأرواح جنود مجندة إذا عرفت هذا فنقول : الجنسية علة الضم ، فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى معين ، فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم ، فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعا ، وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة ، ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين ، وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له : اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا ؛ فإنك ما خلقت لهذا الطريق ، وإن رآه متأثرا عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر ، وأقول : هذا هو المعقول ، فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسبا لحالة مخصوصة ، فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلا هينا يسيرا ، وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء ، والله الهادي .

التالي السابق


الخدمات العلمية